رقصـةُ المــوت





رقصـةُ المــوت







رآهـا على الرمال الذهبية المبللة بالمياه المالحة.. اقترب منها والهاً.. انحنى إليها متأملاً.. وجدها ترقص حين الموت.. الموت الذي نشب مخالبه الحادة فيما تتشبث به من حياة.. حياتها حيث تموت بعض الأنفس.. ترقص وكل رقصة لا تعبر عن كنه فرح، بل استجداء للغوص بها في أعماق البحار لتحيا هي ويموت هو.. أدرك ذلك.. هز رأسـه.. اعتدلت وقفته.. ضحك متهكماً.. ركلها بمقدمة قدمه الحافية: ( كم أنتِ حمقاء أو غبية؟.. وغبي من يدفع حياته الغالية لقاء حياتك الرخيصة..)..



فوق رمل ممزوج ببقايا أعشاب بنية ميتة.. ما فتئت ترقص على سمفونية أمل حياة لاحتمية لجدواها.. وتفاؤلها يسخر من موقفها الحساس.. ركلها ثانية: ( اهدئي أيتها البلهاء.. أهذا وقت الرقص؟..) .. لم تهدأ لأنه يعلم بأنها مفطورة عليه.. ورثته – أباً عن جد، بل هو أصل وأساس حياتهم، يمارسونه حينما يبحثون عما يضمن استمرار الحياة، أو حين يفقدونها، ويدافعون عنه باستماتة حتى آخر رمق.. أعاد ربط مئزره بأطرافه بعد انحلاله.. بدت ساقاه الرطبتان عاريتين كما كانتا من قبل.. رتب غترته المنتصبة فوق رأسه كالعمامة.. فبدا حاجباه ظاهرين بشعرهما الأبيض الطويل.. شمر عن ساعديه النحيلين الأملسين ذوي العروق الناتئة.. حاول متجهماً فارداً عضلاته رفعها عن الأرض.. لكنه يواجه بضربة احتقارية منها على يديه.. اعتدل في وقفته بادية على صفحات وجهه المتجعد الأسمر علامات الغضب.. ركلها أخرى: ( عليك اللعنة!!..).. بقيت تغلق فاهها وتفتحه.. قال: ( ستموتي كمن يتلظى ظمأ ).. الرقصات في شبه أفول.. عيناها الدائريتان الغائرتان .. فاقدتا الجفنين ستبقيا مفتوحتين حتى آخر خلية لها في الحياة .. جسدها ذو الرائحة الزفرة والكساء اللزج الشبيه بقروش فضية متناثرة بالقرب من بعضها، شارف على الجفاف وقد التصقت به بعض الرمال.. وقف أمامها متخصراً وقدماه متباعدتان.. تلفه الحيرة.. يتأفف.. يبلع ريقه.. يتنهد.. جال بصره في أنحاء المكان كمن يبحث عن شيء.. لاشيء هناك سوى شاطئ رملي صغير حوله سلسلة جبال ملساء تستقر على متونها أشعة شمس الصباح الصافي.. جبال بجانبها بحر واسع تهدر أمواجه بنسيم الضحى يرسو على كاهله قاربهُ.. قاربٌ خشبي يحمل عدة أمتار مكومة من الشباك، وعمود تجديف، وسلتان مصنوعتان من الخوص، بإحداهما قطع من لحم الروبيان، والأخرى بها قارورة ماء حلو للشرب، ورغيف بارد.. وكذلك صندوق حديدي مملوء منتصفه بماء البحر..



ألتفَّ حول تلك الراقصة: ( لا.. لا.. لا أريدك ميتة..).. انحنى ينظر إليها عن كثب.. مد يديه نحوها.. لمسـها.. عاودت رقصها بما بقيت لها من حياة.. حاول الإمساك بها.. تحمل لسعات أشواكها.. رفعها بحذر تام بمسكة قوية من يديه السليطتين.. ضحك ملء فيه وهو ينظر إليها.. وبسرعة خاطفة.. خلصها من أنياب الموت بإعادتها إلى البحر مع الأسماك الأخريات.




هناك تعليق واحد:

  1. للموتِ رقصةٌ تُجيدُها الروحُ المُعذّبة

    دُمت أزرقاً أستاذ عبدالله

    ابتسامة المسك

    ردحذف