الرسالة (4)




الرسالة (4)

وفي الشنق حياة لي

بقلم / عبدالله النصر





نعم.. مناي.. تريدين منِّى رسالة مختلفة.. مشحونة بالنكات الضاحكة.. إذن عُدِّ معي.. قمبلة.. قمبلتان.. ثلاث.. أربع.. عشر.. مائة.. ألف.. ياااااي.. يا إلاااااااهي.. كم أضحك على عالمنا الضادي هذا؟؟؟؟

هاهاهاها.. حيث أن تلك القنابل هي عدد العاهرات اللاتي أصبحن فيه سلاحاً وجيشا لو جمع يكفي لغزو المحتل!.



تُف.. العاهرات لا يعجزها تحريرنا.. ونخبة الوعي مازال صدى الدعوة يصدح في آذانها: أن مازالتم بحاجة إلى ثورة ثقافية وعقلية وفكرية في نفوسكم وعقولكم وهويتكم، أكثر من حاجتكم إلى انقلابات أو حروب أو كوارث تطيح بباقي هذا المجتمع الذي انقرض، أو أوشك.



أتصدقين.. بأنني حين أمارس شيئاً من التنفيس، أشعر بشيء من التربيت على الذات المتورمة حنقاً من الوضع.. كالحلم تماماً.

هااااء.. التنفيس معك خاصة.. فأمثالي ليس بوسعهم التنفيس عياناً بياناً، ولا يملكون صوتاً واحداً لفعل ذلك.



آه.. تذكرت.. الحلم.. حلمي الساذج الأحمق!.. ذاك الذي وكأني فيه خرجت في منتصف ذات ليلة حاملاً حلماً آخر ـ هه، حلم في حلم! ـ تسلقتُ جبيلاً كان يقبع في وسط صحرائنا.. ناديتُ فوقه بأعلى صوتي ـ الظاهر أن الواقع والحلم على حد سواء في أنه إذا أراد أحدنا أن يقول شيئاً للناس أجمع يتسلق أعلى قمة يستطيع الحصول عليها!! ـ ناديتُ: هأأأي.. هأأأأأأأأأأأأأي.. يا ضمير العالم قف هنا.. واقرأ بعين الصدق روايتي البائسة.. اسمع عبر كل سطر من روايتي أصوات صراخ قلبي... يا ضمييييييير العااااااااااالم شاهد كيف يكون تدرج الموت في حياة مهملة.

لكن لن تصدقي أبداً إن قلتُ لك عن الذي أجابني في تلك الأثناء.. قبل أن أقول لك أغلقي باب ونافذة غرفتك على نفسك حتى لايسمع ضحكتك أحد فيدعوك بالجنون.. فهي كلمة عادة ما تنسب إلى كل من يضحك حتى داخل بيته بصوت عال ومسموع!.

لقد أجابني ذئب بعوائه كعادة الصحاري حين تجيب!.. هاهاهاها.. لا، بل اقترب مني ونهشني.. فتوسلت إليه قائلاً له ببلاهة: لا.. لست أنت ضمير العالم.. أرجوك ابتعد عني.. لكنه تمادى.. فصحوت ضاحكاً.

ربما ستقولين هذا الأمر مبك وليس مضحكاً.. ولكن أراه مضحكاً، فالذئاب بلا ضمير وإذا أجابت فإنها بالتأكيد تكون مسالمة مع نفسها وفي حالة إرهاب من الآخر.

وااااااو.. أنا كتبت: إرهاب؟!.. لأول مرة أكتبها!!. لكن أرجوكِ منى أرجوك احرقي هذه الرسالة بعد قراءتها، وإلا سيجرونني في الأسواق، وأنت ضعيفة من الممكن أن تنهاري، وانهيارك يجرك لأن تكوني عاهرة.



لنعد إلى موضوع العاهرات.. نعم، إن بعضهن طيبات كما قلتِ.. لا بل حتى الراقصات أيضاً.. أتصدقين بأنهن في اليوم الذي ترى إحداهن شهيداً تقطعه سنابك الدبابات.. يتوقفن عن ممارسة الرقص والمياعة.. حداداً.. وتضامناً مع أمه بذرف الدموع خلف الشاشات.. لم يكترثن لخسارة دخل لذلك اليوم. يالهن من مضحيات!!.

لكن أنا عكسهن تماماً كوني مثقفاً أعمل بما يعمل به الكثير من المثقفين أمثالي، أفتح قناة ( روووتي) الغنائية.. وهااااااااااات يا رقص.. أرقص.. أرقص.. وأرقص حتى الثمالة.. محاولة منِّي لاكتمال رجولتي وإثبات ثقافتي وانفتاحي!.

لكن تعالي.. منى.. كيف تُستنكر مهنة العاهرات والراقصات تلك، إذا كانت هذه المهنة قد تأسست لـ "دفع الموت".. هااااااء.. كيف؟

وكيف نحاسب صبية تبيع جسدها، إذا كانوا صانعوا أحلامها ومنتجوا المعاني والقيم الفكرية، مناضلوها ومثقفوها المنتظرون، باعوا أنفسهم في سوق نخاسة؟.. أو شُرِّد بعضهم في المنافي ليموتوا موت البؤساء؟.. أو باع بعضهم كل شرف لديه من أجل منصب أو مال لا يحتاجه حاجة ملحة كما هي تحتاجه؟

أليست هذه سخافة؟..

ويا للسخافة أيضاً منّي، هذا الموضوع قد قتله الناس بحثاً وتمحيصاً وخرجوا بنتائج منطقية له، وأنا مازلت أردده كالببغاء!.

لكن ربما يشفع لي عذري يامنى.. فأنا أحد أولئك البؤساء الموصدة أمامهم الأبواب.. وبعد أن شردوني وجرّدوني من وظيفتي، أصبحت عالة أيضاً ولا أمتلك حولاً ولا قوة لأكون مُفَعِّلاً.. لا تقولي كتاباتك ستؤكلك خبزاً.. فنحن نقر بعدم ذلك.. إلا أن نكون بخلاف كاتبينا الأغرين ( المصري/ صنع الله إبراهيم، والمغربي/ أحمد بوزفور) وغيرهما..

أنا متنبئ بأن هذه المشكلة ستبعدك عني كثيراً.. وخاصة حين قرأت رسالتك الفارغة من مشاعر الحب، وخالصة للبوح، بالرغم من تبريرك.. لكن هاأنذا أماثلك.. ليس من أجل مقابلتك بالفعل، بل لأن القدر هكذا يريد.. يريد لنا طريقاً أخرى أكثر جفافاً.. لكنني في الجانب الآخر أشعر ـ على الأقل ـ بأننا مازلنا متماسكين من ناحية حاجتنا إلى بعضنا في أن يسمع كلانا الآخر.



ها.. عزيزتي.. ما رأيك في هذه النكات؟.. أليست مضحكة؟!..

لأكمل لك البقية مادام في الورق متسع..



صديقي فاضل حين زارني ليلة أمس.. كان يضحك منّي ملء شدقيه.. وقال بأنك بفكرك الوحيد تريد تغيير العالم؟.. فهيهااااااااااااااات..

نعم لديك مهنة غريبة "مثقف".. لكنك في عداد الناس الذين لا يجيدون فعل أي شيء على الإطلاق، اللهم إلا الإنتاج الرمزي، وإنتاج الأفكار والكلمات.

هذه الأفكار تحتاج لمن يجسدها لكي تصبح موجودة قادرة على تغيير الواقع، أي أنها تحتاج إلى حركات اجتماعية.. ولذا ما المنفعة من وجودك ووجود أمثالك، وما هو مستقبلكم؟



ضحك كثيراً، فأكمل: حبيبي.. ليس سوى الدِّيك الذي يصيح في مملكة النائمين حتى بعد طلوع الشمس. والشباب هو المسموح له أن يمارس مهاتراته في كل مكان.. بينما أنتم ستبقون محاطين بالأسوار؟. بل ستبقى مقولاتكم في عداد الأقوال والوعظ مع أن هذه خيانة لأخلاقية الذكاء؟..

ولا أحسبه يضحك من فرح أو يقول ذلك عن قناعة، لأنه كان يمتلك ذات اللعنة سابقاً.

تنفس بقوة وأكمل: أنظر إلى نفسك.. قاربت الثلاثين.. وشعرك قد ابيض بعضه وغادر أكثره.. تجاعيدك قد جلست على العرش.. الخ.. ومازلتَ لا تمتلك بيتا ولا زوجة ولا وظيفة أيضاً..

دعك من المهاترات.. ياعبدالله .. وإلا فاعمل لتعيش بتجميع العلب المعدنية من الشوارع والقمامات إن سمح لك، أو امتهن الغناء كغيرك وإن كنت لست علبة فارغة أو فتاة جميلة إن تعرت حازت على الشهرة بسرعة.



ومن هنا لم أوبخه أو ألمْهُ.. لأن ما أؤمن به كان ذات قرن، وذات زمن، وذات عصر سُمي "ذهبياً"، و"شغوفاً"، و"مجنوناً". لكن صارت كل هذه الظواهر وراءنا فعلاً. في ذمة الموت. حتى لم يقتصر الأمر على نعي المدارس الفكرية والإبداعية والفلسفية، بل الفكرة ذاتها. فصرنا نسمع ونقرأ من يقول " الفكر مات" و"الشعر مات"، و"المسرح مات" وكذلك السينما، والإذاعة والرسم. والإنسان. والجسد: موكب جنائزي يليق بعصر كامل.

وفكرة التغيير (وبذرته أيضاً) وُضعت في صدارة لائحة المفقودين والموتى.



لكن الشاعر أحمد القدومي يقول في أبيات له:

(( الكلمة في وطني جحود ، والكتابة زندقة

لا تيأسوا فلكل من عشق الحقيقة مشنقة ))

وقد عُـلِّـقتْ في رقابنا تلك المشنقة.. يامنى.

ومن هنا ستبدأ حياتنا..



أتتذكرين بأنني سبق وأن قلتُ لكِ بأن آرنست همنغواي قال ( يمكن سحق الإنسان، ولكن هزيمته مستحيلة). فسألتني: ألا ينم سحق الإنسان بهزيمته؟. ولم أجبك حينها؟.

اقرئي جوابي: على الرغم من أنني أشعر بهزيمة هذا الجسد.. إلا أنني لم أشعر بأني مهزوم في معناي.. إذ أن صاحب الفكرة المقدسة والفكر السامي لا ولن يهزم أبداً في معناه.. سيبقى راسخاً في عقول الواعين، وسيناضل من أجل فكره اليوم أو غداً.



ولذا، سأبحث عن عمل ولو أن طردي من الإذاعة سيصبح عاراً يلاحقني بوصمة نُحِتَتْ على جبيني وعلى شهاداتي العلمية والعملية والمهنية.. سأعمل ولو في محل تصليح للإطارات.. فالمهم أن أحاول بكل ما أوتيت من قوة أن أحقق منّي شيئاً وإن كان خارج الحدود.. وأحقق منكِ كل شيء إن بقيتِ لي.



مناي.. لن أمنعك من العمل في أية دولة في العالم وبأية وظيفة تشائين.. نعم سيحزنني فراقك.. لكن قبل أن تقدمي على أي من ذلك، اعرضيه على عقلك ودينك، فإن وافقهما، فاعملي.. وإلا فلا.



لن أطيل، فأعتقد بأنه مازالت أمامي الطريق مفتوحة لإكمال مشوار البوح معك في الرسائل المقبلة.. ولن أفسد عليّ متعة المتابعة معك لأقرأك وتقرئيني أكثر على مهل وبوقت أطول.. وسآخذ في الحسبان أن هناك من يحاسبنا بلا رحمة مقابل إرسالنا حزمة هذه الأوراق إلى بعضنا عن طريقه.



وتقبلي اعتذاري إن كنت قد فشلت في إضحاكك.. فالألم هو مصدر وعينا كذات كاتبة، ومكمن إحساسنا الشعري بالوجود، وعليه تستدعي هذه الكتابة كافة الحواس للتعبير عن شهوة الحياة.



كوني شعلة في أديم توهانك.




هناك تعليق واحد: