بناءٌ على واجهة السقوط



بناءٌ على واجهة السقوط







مطبقاً الجفنين استندتُ إلى كرسيي الذي حسبته كرسيّ الموت.. فتح دماغي خزانته القديمة.. فامتزجتْ خباياها بأريج الأيام الخوالي المعطر.. بانتْ من بين شفتي الجافتين نواجذي ببرود، وجسدي صالتْ قشعريرته.. وفي كل خطوة يشع نور عارم في خلاياي، فاسترسل بلا توقف.. توثقتْ رابطتي بها ففقدتُ في هذه اللحظة الواصلة الغمض!! .. تلك الخلايا الكسولة اشرأبتْ أعناقها.. لتقف على ذكرياتها النابضة.. على ذكرياتها الطموحة.. لكنها بعدما تنبهتْ للألم المماثل لهذا الليل البهيم.. انتفضتْ أوراقها، فغدتْ كل ورقة تبحث عن أختها.. وأخواتها، واحدة على قمة جبل شاهق تناضل السقوط في الجحيم، وواحدة سقطتْ من أعلاه هناك، والأخرى معلقة على سفحه تغامر الحضيض.. أدرتُ عجلة الكرسي الذي لم يكن كرسي المكتب والسيارة وأريكة المنـزل حينذاك يأخذوا مني نصف ما يأخذه من القوى.. القوى التي كانت حينئذ تستجلب الرزق، تتلاطم عليها أمواج الحسد والغبطة.. سارتْ العجلة في الغرفة الكئيبة متراً واحداً فقط وكأنها في أرض موحلة، وصدري يحتضن رأسي الذي احتجتُ لكل معنوياتي لرفعه، وبالكاد اتضحتْ معالم الغرفة إثر شلال العيون.. اشتعلتْ حجراتي المغمورة بنار الحمم.. مصصتُ أجزاء فمي بأجزائه.. دارتْ الذكريات في رأسي:



كنتُ أغلق هذه النوافذ الثلاث (المغلقة الآن ) ذات الستر المخملية ، وأقفُ أمام تلك الصورة المائلة المعلقة على ذلك الحائط الآخر وأمسح وجهها، وأوازنُ إطارها بعد أن تلاعب بها الهواء.. وهذه المكتبة العريضة لا يعجزني تلقي أي كتاب وضعته في علوها الشاهق.. بل كنتُ بنفسي أغير أمكنة خزانة الملابس الكبيرة، وكل الأرائك، والسجاد.. فضلا عن ما يمكنني فعله خارج الغرفة والبيت.. أما الآن ..



تأرجحتُ في ردهات الغرفة الساكنة.. نطق الصمتُ في الصمت.. حاول العقل إشغال حاسبته.. استخدم كل العمليات فيها.. ففشل ، مما جعل المستحيل المنادي في الظلام يعبث بي !.. فناديتُ في وجدي بابتسامة ساخرة:



هه.. يا ترى.. ماذا عساي أن أحرق وأنا الشمعة المطفأة ؟.. ماذا عساي أن أحرق وأنا البركان المخمود؟..



وبالكاد أرى طريق دماغي.. أشلائي هزّت الكرسي بكل قواها، وعلى سيمفونية الذات المنهكة رقدت الحروف.. كانت كنثار ثلجي على طريـق معبد.. قلبي المحترق بلهيب حقيقة كياني أذابها.. فشهقت شهقة شجرة في غاب يحترق.. صحتُ في صميمي عازفاً حروف الاستفهام واليأس:

لكن لماذا أحترق، أولستُ ممن يواسيه الجماد؟.. أولستُ ممن قتل في سوح جهاده؟.. وكيف أحترق، وجسدي البالي قد وئد في مهده؟.. لن يجدي نفعاً هذا الاحتراق.. لن يجدي نفعاً..



آ آ آ آ ه.. ليت شمسي لم تشرق.. ليت يومي حُبستْ أنفاسه ومات.



وُلجت في الظلمة، وصُبغ وجهي بالسواد نحو واقع أشلائي المنهارة.. الواقع الذي أغمد سيفه في فؤادي بقوة، حيث كان فارساً نازلني بحيوية لا تضاهى، وأوقف ما أريد تنفيذه.. ثم أشهر فوزه في ميدان سباقه معلناً عن سقوط بناء جسدي الثائر .. قائلاً:

أبق أسيراً ، مكبلاً بهذا الكرسي.. فأنت معاق.. معااااااااااااااااااااااق !!.

قبضتُ على الكرسي زمناً طويلاً.. زمنا تسامرتْ فيه الأنفاس والهدأة.. تسامرا حتى رطبا مابين قوى الأنامل والمقبوض فانفكت، والرطوبة أحيتْ شجرة البسمة على شفتي.. فعاد الجفن يدفئ مقلتيّ، وعاد الدماغ للانتماء إلى خزانتي القديمة مرة أخرى.. فكانت صلته أقوى وأوثق.. رمقتُ الصورة .. ما أروع هذا الوسام والدرع الذي ضمهما صدري منذ أن تسنمتُ المعالي .. ما أروعني حينما كنتُ أجمع الكتب الثرية وأعكفُ عليها .. ما أروع حركة عربة تلافيف رأسي حين جالتْ بي في زوايا هذه الغرفة الرحبة ، وبعد استجماع مُـقْـنِـع ، أضع على ناصية البياض أكبر الكنوز الفكرية .. بهذا وبما جعل حينذاك للشمس متعة ولليل سلوى ..حفزتُ جميع الخلايا على التأهبِ والعدةِ بجد مستقياً مايغمر كيانها من جرعات الخزانة العطرة.. جعلتُ للرمال الصفراء في عينيها لمعاناً وبين يديها ذابلة.. ثم سألتها :



أليس للأحجار تسبيحا؟

فأجابتْ: بلى، وللآخرين فيه غرابة وتهليل.

سألتها ثانية: أليس للشهداء صدى ؟

أيضاً أجابتْ: بلى .. لهم صدى.. تردده الأسماع وتهفو إليه القلوب.

قلت: إذن نحن الآن متفقان.



وهنا احتضنتُ صفاء السماء في رابعة النهار مؤلِـفاً على صفحاتها أنشودة الحياة. وبرغم البحاح.. صرختُ راسماً خطوط نور جديدة بألوان الطيف، تلذذتُ بإشراق الشمس أمامها ، فأعلنتُ على أنقاض جسدي الساقط المنهار ، بناءً آخر أكثر صخباً وقوة بقولي:



ولئن فُـقدتُ جسداً ، فيقيناً لن أُفـقد معنى !!.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق