لحظات اكتشاف




لحظات اكتشاف





بعـد أن بـتُّ يتيمـاً في العاشرة من عمري ، ذهبت لأعيش مع عمـي ( أحمد ) في بيته في مدينة الدمام . عمي في ذلك الوقت لم يكن كبير السن فقد ناهز الواحد والأربعين من عمره وبادية على ملامحه الرجولة والرشد . لم أرَ في حياتي رجلاً نحيل الجسم وأملس الوجه خالياً من التجعدات سواه .. عكس أبي الذي يكبره ببضع سنين.. بيت عمي ( أحمد ) ذي اللون الأبيض يرزح شامخاً على طريق عرضها اثني عشر متراً تقف على حوافها سيارات بماركات وألوان متنوعة ، وبجانبيها أرصفة تجثم فوقها أشجار مهذبة ومتناسقة في الشكل .. إنني أحب قيادة إحدى تلك السيارات وخاصة سيارة عمي ( أحمد ) ماركة ( كابريس 91) التي اشتراها مؤخراً .. أحياناً أولى أراقبه من الشرفة المطلة على الطريق وهو يقودها في الصباح ، كذلك عندما يعود من عمله ويركنها بجانب البيت في المساء.. وأحياناً ثانية أراقب السيارات المارة أمثالها طوال اليوم .. وأحياناً أخرى أقترب منها في الطريق وأتأمل خارجها ، ثم ألتصق بها لأرى محتوياتها الداخلية من خلال الزجاج النظيف، وأتخيل نفسي وأنا أقودها.. إنها رائعة بالنسبة لي وجذابة بلونيها الخارجي الأبيض والعنابي الداخلي.. عمي دائماً يحذرني بعدم الاقتراب منها وعدم لمسها كغيري من الأطفال . لكن أمنيتي في الدنيا هي أن أقودها وإن كنت أتخيل نفسي قزماً على مقعدها .. قصيراً لا أبلغ محركات قيادتها الداخلية . وكنت كل صباح أسأله ما إذا كان من الممكن أن أقودها .. لكنه دائماً يجيـب : ( لا ، إنك لازلت صغيراً بعد ).

وفي هذا اليوم الساعة العاشرة صباحاً بعد أن استلمنا نتائج الاختبارات، وقد نجحت بامتياز .. وأثناء عودتي من المدرسة .. رأيت سيارة عمي ( أحمد ) مرفوعة مقدمتها وبعض قطعها فضلاً عن إطارها متناثرة بالقرب منها .. كان يجلس بجانبها مرتدياً بنطالاً وقميصاً ماركة (جينـز) متسخين ببعض زيوت السيارة السفلية الممزوجة بالغبار .. بيديه مفكات يود تغيير فراملها الأمامية .. اختلست نظرة متكاملة للسيارة أجدد بها عهداً .. ثم رفعت طرف ثوبي آخذاً بشهادتي إلى صدري فجلسـت بالقرب منه في ظل السيارة من اليسار أراقب مايفعله .. كنت أراه يتصبب عرقاً ويعمل بجد .. وأعتقد أنه لم ينتبه لمقدمي ، لأنني أراه ينحني مشدود الذهن إلى محركات سيارته .. يفتح بعضها ويشد بعضها الآخر.. فحيناً يصدر تنهدات .. وحيناً أخرى يتأفف ويشتم .. كانت الحرارة مركزة حتى في الظل .. الشمس كانت محرقة بحيث جعلت زجاج السيارات ونوافذ البيوت وأوراق شجر زينة الطريق تلمع وتبرق .

مازال عمي ( أحمد ) كلما غرقت سحنته القمحية بوابل من العرق الكثيف .. يمسحه بقطعة قماش قد أفل بياضها ، أو بطرفي كميه المتسخين .. حتى انتهى من تركيب الفرامل الجديدة .. بعد أن نظر إليّ وأنا قابع في مكاني وقد نثرت الشمس ضوءها الحار على رأسي والعرق المالح قد كسى معظم زوايا وجهي .. قال: ( لماذا أنت هنا ؟) .. كنت بدلاً من إجابته كلامياً سأقدم له شهادتي الدراسية .. لكنه سرعان ما التفّ حوله وتناول إطار السيارة ومساميره الخاصة به فوضعه في مكانه .. وراح يشد المسامير بالمفتاح ذو الأربعة اتجاهات بكلتا يديه وبكامل قوته .. وتبعاً لذلك تهتـز السيارة فضلاً عن كامل جسده .. وصفحات وجهه تنقبض وتتكسر .. ثم تنفتح شفتاه إلى آخرهما وتظهر شفرتا أسنانه الصفراء مصطكة ببعضها .. أنا واقف بالقرب منه أراقب كل ذلك .. رفع كل مفكـات الإصلاح إلى صندوق السيارة الخلفي بعد أن أعادها إلى مستواها السابق بفك الرافعة .. ارتطمت كفاه ببعضها ينفض ما استطاع مما علق بها من أوساخ .. التفت إليّ ( لم تقل لي لماذا أنت هنا ؟) .. نظرت إلى وجهه وقد بدا أحمر اللون .. رفعت له شهادتي: ( لقد نجحت .. ياعمي ).. قلت هذا وانتظرت ردة فعله .. نظر إليّ برهة في صمت وهدوء.. ثم ابتسم وانحنى صوبي رابطاً كفيه وراء ظهره مقرباً فيه إلى وجنتي اليمنى وقبلني (ألف مبروك يابني .. ستنال هدية قيمة ) .. انفرجت أساريري بينما ركب سيارته وأدار محركها منـادياً: ( هيا اركب ).. فتح بابها اليمين لي .. جلست على المقعد .. قيدني بحزام الأمان مثله .. سار أمتاراً قليلة وتوقف فجأة .. أهالني الموقف فتمسكت بكلتا يدي في المقعد .. شددت رجلي في أرض السيارة .. عضلات وجهي تقلصت من الخوف .. كررها مراراً ليجرب الفرامل الجديدة ما إذا كان تركيبها جيداً أم لا .. ومع ذلك كله لم أترك مراقبة حركاته في كيفية قيادة السيارة .. إلى أن عاد وتوقف بجانب البيت تحت ظل الشجرة .. طالعني بنظراته الحانية: ( عمل شاق أليس كذلك ) سألني بلهجته فصيحة بطيئة . فقلت ( نعم ) وراقبته يفك أحزمة الأمان .. وطلب مني النـزول.. ترجلت .. ذهبت إلى البيت بسرعة خاطفة من تلقاء نفسي وأحضرت إناء ماء بارد ليشرب .. تناول الإناء ورفعه إلى فيه ساكباً الماء في حلقه محدثاً غرغرة مضحكة .. ابتسمت واضعاً يدي على فمي.. وبعد أن انتهى ناولني الإناء مبادلاً معي الابتسامـة.. فوجدتها فرصة قيمة .. فقلت: ( عمي .. هل أستطيع قيادة السيـارة ؟) حاولت أن أقول ذلك بشكل عادي وعلى طريقة الكبار .. نظر إليّ مبتسماً ، ثم قطب حاجبيه .. مسح بقطعة قماش نظيفة ماعلق من أوساخ من فوق غطاء محرك السيارة الأمامي .. فقال : (وهل تظن أنه بإمكانك قيادة السيارة بشكل جيد؟).. أجبته وكلي أمل :

= ( بالتأكيد ) .. مسح وجهه بكم قميصه .. وبصوت ممدود قال :

( حسنٌ) .. فتوسلت إليه : ( أرجوك ياعمي .. الآن )

( لكنك يابني .. مازلت صغيراً ) .

= ( بل طولي يكفي .. ياعمي ) قلت ذلك وأنا أتطاول قليلاً .. استند سيارته .. نظر إلى السماء بعبوس .. كانت حرارة الشمس قد اشتدت أكثر .. فقال بهدوء : ( بشرط واحد).. قلتُ بفرح :

( موافق ) . فقال هازاً ومشيراً إليّ بسبابته غامزاً بعينه :

( إن لم تُحسن قيادتها ، ستخسر هدية النجاح ) لم اهتم بما قال.. بل انطلقت إلى فتح باب السيارة الثقيل .. فباغتني مقودها الدائري المنتفخ .. وقفـت أتأمـل في محركاتها الداخلية متسمراً .. ولأول مرة أهالني كل شيء فيها .. شعرت بضرب من الرعب .. ارتعشت فرائصي .. ثم تراجعت إلى الوراء قليلاً .. تخيلت صغر حجمي وضخامتها حولي بشكل مبالغ .. ظننت بأنني سأقود سيارة شاحنة عملاقة وليست سيارة خاصة صغيرة .. أقترب عمي ( أحمد ) مني وسألني :

( ها .. هل أنت مستعد؟ ) .. قلت وأنا أحاول أن أكون هادئاً:

= ( لا.. لا أظن أنني أريـد أن أقودها اليوم ) ، ويبدو أنه لم ينتبه لما أقول فألتف حولي وغدا يربطني بحزام مقعد السائق .. فتمسكت بيده وصحت : ( لا .. لا أريد ، ياعمي ، لا أريد ) .. صرخ في وجهي بفضاضة وهو يجلسني بالمقعد :

( هراء .. أنت أردت ذلك وسوف تفعل ) .. تمسكت جيداً بالباب محاولاً الخروج من السيارة واضعاً قدمي خارجها.. أغمض عيني تارة وأفتحها أخرى ، وأصرخ :

= ( لا .. لا .. لا .. ) تلويت واهتزت أعصابي وبدأت أصيح .. تركني فخرجت من السيارة .. فقال بفضاضة :

( تباً لك .. أذهب ) فدفعني بعيداً كاد أن يوقعني أرضاً .. فتحت عيني ولهثت وكان يهتز جسدي كله ويرتجف . وبقدر ماكنت أحاول أن أصيح بقدر ما كانت تجري الدموع على وجنتي الذابلتـين.. نظرت إلى وجهه المكفهر متأملاً فيه منتظراً نتيجة لم أخمنها .. أغلق أبواب السيارة بالمفتاح .. اقترب مني .. جلس قبالتي.. أخذني إلى صدره راسماً على وجهه ابتسامة هادئة .. فقال بهدوء ولمسة حانية بعد أن مسح دموعي وأصبح وجهه قبالة وجهي مباشرة :

( لقد تعلمت اليوم شيئاً لم يتعلمه كثير من أمثالك ) .. مسح من على خدي دمعـة أخرى .. فجذبتني ابتسامته .. هدأت .. جففت ماخرج من أنفي بمنديل ورقي .. تطلعت إليه .. فقلت :

= ( نعـم .. ولقد اكتشفت بأن الخيال ليس كالواقع على الإطلاق).. انتصب واقفاً .. مسك بعضدي الأيمن .. أفرد شفتيه ضاحكاً .. بادلته الشعور .. فسار بي إلى داخل المنـزل .



3/9/1420هـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق