صعـالـيـك





صعـالـيـك







( بخيــــل !!)



كلمة تفجرت بعفوية - بعدما أخذت الطفلة (سارة) الريال من أبيها - فتآكلت حروفها على أعتاب شفاهها تآكل الألم على سفوح كيانها الضامر.. جففت بكمها الخلِق عصارة فؤادها المنهك.. طوت (الريال ) بأنامل شبيهة بعود الثقاب.. قبضت عليه قبضة الضاري على طعامه.. بددت غياهب الحزن بابتسامة ينتثر ضوؤها رويداً رويداً على قسماتها الناعمة المحمرة، فطفقت متعة النجاح تسكب في ساحات قلبها كل السعادة والفرح، فقالت متمتمة :



- من زمان وأنا أحاول أن أحصل على هذا (الريال) مثل باقي البنات و أخيراً حصّلتْ.. أيدي ماتعطي بسهولة.. كل يوم بكره.. بكره .. بكره.. الظاهر ماتفيد إلا القوة..



وبحثاثـة الريح التقطت بيديها نعلها الفاغر فاهه، المكسو بمسحة بيضاء من الغبار وبعـض الوحل اليابس .. رامية – دون عناية – على قمة رأسها المستطيل عباءتها السوداء المتسخة .. هاربة إلى باب الخروج الخشبي .. لتصفقه بقوة الانفجار فتخلخل مابقي منه .. صفقت به ولم يقع البيت الطيني، ولم وتنسل جذوعه المنتخرة من قوة الصفقة التي زلزلت تجاعيد وجه والدها الغائرة في الزمن القاسي، والمتصدي لجوره ومآسيه .. الصفقة التي استلبت جموده وسكونه ليتجه نحوها ، هادراً بآلة صوته وابل احتراق بقدر ما يتطلبه موقفها الطفولي : - ( تعالي .. يا بنت الـ … … )



غاصت خطوات (سارة) الحثيثة المتباعدة في أحشاء الزقاق الرملي.. تعفر عينيها السوداوين في مسافاته وفي بيوتاته المنـزلقة على حوافه دون ترتيب، الحاملة أعباء الدهر، السابرة أغوار أهلها، الساترة خوافيهم، المتداخلة في بعضها البعض، والتي تعبر مرة عن عمق الرابطة والتلاحم القروي، ومرة أخرى تعبر عن قسوة مأساة الضيق والكآبة.. تخلف وراءها أبواباً قابضة على الحياة بقوة صمود جدرانها العائمة في فيافي الفقر وسلطته الجائرة.. تخلف نوافذ استلب منها جلبابها ليسطو من خلالها ما يشق على النفس استنشاقه وعلى الأجساد المتربعة في الحرمان اكتنافه.. (سارة ) تركض، وبتجاهل تشرب بقدميها النحيلتين العاريتين وهج شمس الظهيرة الكاوي.. مثبتة فوق رأسها – بظهر كفها القاـبض على النعل الذي لم ترتديه – العباءة المهترئة التي تتأرجح ـ وخصلات شعرها المتكسرة ـ لولبياً من ورائها ليبدو فستانها ذو الألوان الباهتة جلياً ملتصقاً بجسدها، وتغتال ترتيبه ركلات الهواء المصطدمة مقدماته.. تختلس نظراتها الهائمة في المجهول الذي ربما يطاردها من خلفها، وتردد عابسة:



( بخيل .. بخيل .. ولست خائفة )



وهكذا تنهب مسافات الأزقة الضيقة في وله غير مكترثة بمفاجئتها. وإذا في المنعطف الضيق.. تنتصب - بغتة - امرأة عجوز أعفاها الزمن وقصر جسدها الهرم عن إمدادها بالقوة التي تعينها على تحقيق ما تؤول إليه ببساطة.. تصطدم (سارة) بمتون المرأة المتهالكة، فترتطم أوصالها الطرية المشرفة على الانهيار بأرض الزقاق.. فيتردد صدى العجوز كالنائحة الثكلى على متون الجدران السابحة في الأحشاء التليدة: ( آي.. يـي.. يـي.. يـي.. ) .. ثم أهلّتْ سحبها المثقلة أمطارها متقطعة موحلة نتنة :



( عما .. والله عما .. أفتحي اعيونك .. والا صحيح انتِ عميا ؟؟.. ) ..



وبالرغم من أن الخوف يعيث في قلب (سارة) المضطرب.. والرعشة تمتزج بدمها المتدفق في أودية الألم.. إلا أنها لم تكترث للمرأة العجوز وشتائمها وتهكمها.. وكذا لم تأبه بالألم الذي أصابها جراء الوقوع.. فنهضت وقبل كل شيء بعينيها وبملمس أصابعها تُطمئن قلبها بوجود (الريال ) في يدها.. فرأته لم يزل يشكو ألم تكسر ضلوعه في أعماق راحتها المليئة بالعرق.. فاطمأنت وهدأت من روعها ، ثم لملمت أشلاءها لتعاود جريها اللاهث تتلقط ألوان عقبات الطريق.. والحرارة الشمسية تسطو بداخلها فتوشح سيماءها الرقيقة لتبدو وكأنها وردة حمراء ذابلة.. تستنشق الهواء الجاف فيتغلغل في ردهات حلقها فيزيده جفافاً وتجريحاً.. تركض.. وتركض .. تمخر المسافة السامقة الموغلة في الطريق المغمى عليه من الحرارة الصيفية، والتي تنسل إلى أمعاء طفولتها لتغفو في زواياها المنهكة.. ولسان حالها يلهج بخواطر شبق المأمول.. وتعزف على أوتار شفاهها كلمات عتاب ساخرة عقيمة :



( والله .. تمشي في الجهة الموجودة أنا فيها .. وتلومني .. الـ … … !) ..



وبحركـة لسان يمتد بحجم تهكمها يخـرج وتلتف من حوله شفتيها اليابســة: (هـ أأأ…)..



وفي هذه الأثناء اتضحت معالم الحانوت ( البقالة/ الدكان ) الذي يبعد مئتي متر يغوص في قزحية مقلتيها، ويرسو على مرفأ قريتها العائمة في الرمال المتحركة.. هدأ جريها.. وقرع النابض يترنم على وقع أوتار خطواتها المتباطئة.. تمشي وفي كل برهة تطمئن ذاتها على وجود (الريال ).. وحينما تمر بجانب الأطفال أترابها تناديهم :- (هأأأي.. ).. فتريهم إياه من منأى بغرور مبتسمة أو متضاحكة .. فينادونها إما بالوقوف، فتقابلهم بالهروب، وإما بالمشاركـة فتقابلهم باهتزازات الرفض القاطع، حتى مضغت أقدامها مسافة الطريق لتصل إلى الحانوت ، فدلفت بداخله رامية بـ (الريال ) في وجه صاحبه.. وكأنها تلجم فاهه وتقيد جوارحه.. تناول الحانوتي الريال بضحكة ساذجة ساخرة ، مناديا لها وهو يهز رأسه يمنة ويسرة :



( تعالي .. يابنت ماذا تريدين ؟..) ..

( أريد.. بسكوت بالشوكلاته.. الذي بداخله هدية !)..





قالت ذلك وهي تبحث عنه في أرجاء الحانوت، فبادرها بذات ضحكته:

تعالي.. يابنت.. تعالي أقول لك..



اقتربت منـه وهي تصف له شكل البسكويت بكلتا يديها ظناً منها أنه لم يفهم ما تريـده.. فقال لهـا:

أعرف.. أعرف ماتريدين.. لكنه بريال وربع.. لا بريال فقط.. يالله مع السلامة..



شعرت بأن كلماته كخنجر انغرز في قلبها.. أحمـرّ وجهها.. فقالت بذهـول: (هـاه!!..).. فغرقت في الصمت، وهو يرمي إليها بالريال بتجاهل وكأنه يردّ لها الكيل.. لكن الأمل فجر ينابيعه في ردهاتها الغائصة في الحلم.. فبادرته بكلمات ملؤها الاستعطاف والتوسل: (الله يخليك .. اعطني إيـاه بريال .. ماعندي غيره ..).. فحدقت في عينيه تبحث فيهما عن الرحمة.. تبحث في كنفهما عن الأمل والحلم الرطبين الضائعين، لكنه تركها تعود تجر أذيال الخيبة:



خذي ريالك.. يابنت.. وروحي آتيني بالربع الباقي.. وإلا خذي أي شيء غيره بريال، أو لا أراك مرة ثانية..)



تصلبت وقفتها ويداها تقبض بقوة على تلك الطاولة المفترشة شتى الحلويات.. كادت أن تبكي.. وهو يكمل حديثه بتمتمات مسموعة: ( نحن .. ربحنا في هذا الربع..).. ما فتئت نظرات (سارة) تغوص في بحور عينيه بضع ثوان وكأنها تذيب جبال الجليد في أحشائه.. لكنها لم تستطع، فما وجدت إلا العواصف الثلجية تدفعها خارجاً.. وترمي بأحلامهـا جانباً.. خرجـت (سارة ) خائبة، قابضة علىريالها براحتها، وفي عينيها دموع، وبقلبها انكسار، ومن حلقها شهقات تستـثار.. تسيـر في الزقاق الرملي.. فتنغمـر في أحشائه، وهي تتمتم:



كلهــم بخيلين.. بخيلين.. وهذا.. أبخل مـن أبي..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق