الإبداع بين الوجود والعدم






الإبداع بين الوجود والعدم



إعداد الحوار الأستاذ أيمن الرزق

وحميد العبد الرضا

قرية الجبيل، على مجلة الرسالة







(لكي نرفع ستار ظلمة الجهل عنا يجب أن نتعلم .. ولكي ندعي أو ندعى كتاباً لابد وأن نكتب مما تعلمناه بطريقة وأخرى .. وحتى نكون مبدعين ، لابد أن نصدر نتاجاً متجدداً غير مسبوق ..) هذا شيء مما توصلنا إليه من خلال الحوار الآتي مع القاص الأخ / أبي جهاد عبدالله النصر .. لذا فلنطلع على كامل الحوار :









س1/ الأخ أبو جهاد .. ترى ما هو فن الإبداع ، في نظرك ؟





الإبداع سمة عليا يحوزها أو يتسنمها كل ذي لب يخصب ما يتلقاه من معارف ، فيزداد كمها من جهة ، ومن جهة أخرى تتأتى عن عمليات التخصيب هذه ، كيفيات جديدة لم تكن متوافرة لما تلقاه المخ من معارف .. لأنه ينظر إلى عقله بأنه جهاز متمتع بالقدرة على القيام بعمليات التوفيق والتبادل بين المعارف التي امتصها ، وقادر على إحداث تفاعلات خبرية فيما بين تلك المعارف التي تلقاها من الخارج ، كما يعتبره شيئاً يشبه المزرعة التي تتكاثر فيها الكائنات الحية .. لا أن يعتبر عقله – مثل أولئك الذين يطلق عليهم ( النقليين )- كالوعاء الذي تصب فيه المعرفة فلا يزداد ما يسكب فيه ، بل قد يكون معرضاً للنقص بسبب ما تفقده الذاكرة من معرفة ، أو يصاب بالتلف بسبب أخطاء الذاكرة ، أو بسبب ضعف الخيال الذي يشوه ما سبق أن امتصته الذاكرة .









س2/ بالتأمل في كثير من الكتابات المتباينة ، المطروحة في الساحة اليوم .. هل نجد فيها إبداعاً بالشكل المطلوب؟





للأسف لا نجد ذلك الإبداع المطلوب في الكثير منها. وهذا لايعني أن الساحة فارغة منه ، لأننا إذا اضطلعنا ببعض العطاءات الأدبية ، سنجد فيها إبداعاً متجلياً بقدر ما اكتسبته ذاتية كاتبيها وهم هائمون في عالم الفكر والتفكر والتحصيل العلمي، وهذا الـوجود الإبداعي ليس فقط على نطاق الكتاب الكبار الذين بلغوا مراتب العلوم العليا فقط ، بل حتى الكتاب الناشئين الذين لم يوفقوا لإكمال دراساتهم .. إذ اكتنفتهم الموهبة ، وارتقت بهم الذائقة ، وشعللتهم القريحة ، وأججهم التفكر .. فضلاً عن امتلاكهم عناصر الإبداع كالموهبة الجامحة ، والمحصلات الخبرية ، والطاقة الوجدانية ، والتمكن من وسائل الأداء ..









س3/ فــي رأيـــك ، لماذا لا نجد ذاك الشوق الذي يشدنا إلى كتابات اليوم ؟





لا نجد ذاك الشوق ، إذ أن الكثير من كتابات اليوم – للأسف – لا تخرج أحياناً عن كونها مجرد مناجاة ذاتية مباشرة تدور حول نفسها دورة أسطوانة مملة أو مناجاة خاصة بين اثنين لا ناقة للقارئ فيها ولا جمل ، أي أنها كتابة لا تثير تأمل واهتمام القارئ فيها ولا تحرك وجدانه ، وقد لا ترقى إلى مستوى الكتابة الأدبية المبدعة .. ولا أدري ، ماذا يهم القارئ في مناجاة بين اثنين محملة بالشكوى والتوجع والذكريات الخاصة التي يفضل لكاتبها أن يبعث بها مباشرة إلى من يهمه أمرها بدلاً من إضاعة وقت القارئ .. لأن القارئ عندما يقرأ يتوقع أن يحلق معه وبه إلى فضاءات الجمال المليئة بالإثارة والدهشة ، وأن يضيف إلى حصيلته الجمالية أو المعرفية شيئاً جديداً لا سابق له، أي أن يُـكسب المتلقي شيئاً من تجاربه .. ليتحقق للقارئ ، إما شيئاً من (تحريك العقل ) أو إما شيئاً من (المتعة ) أو إما شيئاً من (الفائدة) أو الثلاثة معاً .. فتحريك العقل يُمنح من التأمل فيما أبدع ، والمتعة تمنحها جماليات الشكل والفائدة التي تمنحها المعاني ، فإذا كان النص خاوي الإبداع ، متداعي الأركان ، رث الشكل فارغ المحتوى .. عاد القارئ بعد قراءته صفر اليدين .









س4/ أكدت بأن هناك كتاباً ناشئين لم يوفقوا لإكمال دراساتهم .. وأبدعوا .. فهل هناك مثال حي لأحد هؤلاء ؟





بالطبع كثير مما لا يتسع المجال لذكر أسمائهم .. لكن على سبيل المثال لا الحصر ، كان بين يدي قبل أسابيع كتاب خواطر وجدانية بعنوان ( خلجات محترقة ) بقلم الأخت ( شذا الأقحوان) وهي كاتبة جبيلية متخفية خلف الكواليس .. هذا خير مثال يؤكد لنا هذه الحقيقة .. فمن يبحث في موضوعاتها عن عنصري الجدة والإبداع .. فإنه لابد سيظفر بهما من خلال كتاباتها المتميزة.. المكسوة بحلة جمالية بديعة كالدانة أو اللؤلؤة المغمورة في البحار .. هذا بالرغم من أن جل كتاباتها استنـزاف لمشاعر ذاتها إلى أبعد الحدود ، وإظهاراً لمآسيها ويأسها وحزنها وألمها للفقد والهجران الجاثمين فوق صدرها القابعين في أعماقها . ولأني أرى بأن كتاب الأخـت (شذا) جدير بالمطالعة فإني أدعو الأخوة لقراءته والتأمل فيه إن هي حاولت إظهاره ، بصرف النظر عن أنه يتسم بالذاتية فقط ، وعدم الإتيان بالفكرة الجديدة .. بل يطلع عليه من باب أنه يشكل نوعاً من المحاولات الإبداعية التي تكلمنا عنها آنفاً .. وهذا ما يفيد – بشكل مبدئي – كل محاول للإتيان بالإبداع المنشود .. إضافة لعدم الاقتصار عليها .









س5/ وما مثال ذلك ، من خلال ما كتبته الأخت / شذا ؟







المتأمل في كتاباتها الجميلة ، يجد الكثير من المحاولات الإبداعية ، وكذلك محاولة الخروج عن التصويرات المألوفة ، وقـد خرجت بالآتي :



1- الحروف تبدد ظلام الليل ، في قولها (من بين أضلاع حبي شعت للحروف أنوارها ، لتخرق ظلام الليل البهيم ، وتحوله إلى نور ساطع ) ص 7.



2- تُسمي: الأمل طيناً ، في قولها : ( بحثت عن جذور الأمل في صميم أراضيّ .. بحثت عنها لأجد تراكم حبيبات الأوجاع والآلام يغطيها طين من تشبثات الأمل )ص 11.





3- الحمائم الوديعة تحت أجنحتها تحمل الدمع لا بين أجفانها ، في قولها : ( في أعالي الأفق شاهدت حمامات بيضاء .. تحمل بين أجنحتها شيئاً .. ) إلى أن تقول : ( وإذا بقطرات من دمع ساخنة أغشت ناظري ) ص 17 .



4- تصــوير رائع في قتل العشق بالبطيء ، في مقطوعتها ( نبض مختنق في وحل راكد ) ص 18 .





5- تصوغ النجوم عقداً يطوق جيد الطفلة المنتظرة ، في مقطوعتها ( محيا طفلتي أم ضوء القمر ) ص 32 .



6- حبيبات التراب تهمس في الأذن .. في قولها : ( حملت جزءاً من حبيبات تراب بلدي الحبيب لأسمعها تهمس في أذني ) ص 45 .



وإلى الكثير من تصويراتها اللطيفة ، وصياغتها الرائعة البديعة والمبدعة .









س6/ من وجهة نظرك ، لماذا بعض الكتاب يختفي وراء الكواليس ، ويخشى ظهوره ؟





هناك عوامل عدة منها الشخصية ، ومنها الأسرية ، ومنها الاجتماعية .. وأفضل توجيه هذا السؤال لكل كاتب على حدة هو يبدي أياً من تلك العوامل المسببة لاختفائه ؟. وربما سنتكلم عن هذا في وقت لاحق .. لكن مايحز في نفسي هو أن البعض منهم يلقي باللائمة على الآخرين بترديده ( لا أحد يشجع ، لا أحد يهتم .. الخ) وفي المقابل هو يكتب ويدس كتاباته في الصناديق السوداء لتختفي عن الأنظار ، ولا يشارك أحداً في مجاله .. ولو أنه أظهر نفسه – كما نفعل نحن – ثابتاً جدارته ، للقي كل ذلك واحتفى به الجميع .









س7/ عود على ذي بدء ، كيف يُحقق الإبداع ؟





الكاتب لكي يكون مبدعاً مجدداً عليه أن يضطلع بعمليتين ، وهما :



1- عملية فك أواصر العلاقات الموجودة بين الأشياء أياً كان نوعها .



2- عملية التركيـب لها .. كأن يقطع أحدهم شجرة ومن أغصانها يصنع خيمة يحتمي تحتها .. لا أن يغرس الأغصان لينبت شجرة أخرى فيدعى عمله تكراراً واجتراراً.











س8/ هـل يجوز لأي كاتب أن يدعي الإبداع ؟ ويبدي رأيه فيما كتبه بالإيجاب ؟







لايمكن لأي كاتب أن يدعي الإبداع مالم يأتِ بالجديد الغير مسبوق . لأنه من الملاحظ على بعض الكاتب أنهم لايمكن أن يبدون رأيهم في نفسهم أو فيما كتبون إلا بالإيجاب ، ويعتبرون نتاجهم إبداعاً وأفضل ما توصلوا إليه بحيث لا يستطيعوا نقد ذواتهم إلا وفق شروط تتوفر لهم ، وذلك حينما يتقدموا إلى مرحلة النضج ، حتى أنهم لايمكن أن يخضعوها لنقد الغير إلا تواضعاً منهم ولشعورهم بأنهم حائزون على مرتبة أعلى منهم كتابياً ليستفيدوا من أولئك النقاد .











س9/ أخذت نصاً لكاتب ما ، وكتبته بطريقة أخرى أكثر حسناً مما كتبه ، هل يعد ذلك إبداعاً ؟







بالطبع لا ، فهذا يعد تطويراً .. فهنا خلط بين التطوير والإبداع ، وهذا للأسف مايقع فيه البعض وهو الخلط بين الجدة في الإبداع غير المسبوق ، وبين التطوير الأدائي . فمن يقوم بما تفعل مثله مثل الميكانيكي الذي يدخل بعض التعديلات على إحدى السيارات ، وذلك على سبيل المثال : يجعل فتح وإغلاق زجاج السيارة من يدوي إلى أوتوماتيكي .. فيدخل عمله هذا ضمن نطاق التطوير لا الإبداع . فالإبداع طفرة أو قفزة أو نقلة من المهمة أو الوظيفة التي يؤديها الفرد إلى شيء آخر لم يكن موجوداً برمته بطريقة أخرى أفضل من السابقة ، كإيجاد السيارة – مثلاً – عوضاً عن عربة الخيل ، أو الطائرة عوضاً عن السيارة .









س10/ هـل هناك عثرات تعتري طريق الفنانين والأدباء والتشكيليين وغيرهم تمنعهم من الإتيان بالجدة والإبداع غير المسبوق ؟





نعم ، توجد عثرات ، وربما تكون موهومة أيضاً ، ومنها :



1- نضوب معين المجالات الإبداعية وانغلاق سيلها المتدفق تقريباً قبالة من قلوبهم تهفو إلى الإبداع ، فناظم الشعر أو القاص أو الراسم للوحات أو الناحت للتماثيل ، يجد أن مايقوم بإنجازه قد سبقه كثيرون إلى تقديمه ممن يعملون في مجاله ، من هنا تنشأ حالة من الرتابة والروتين والتشابه والتكرار الممل ، وتكون الجدة غير المسبوقة شبيهة بالعدم كما نلاحظ في كثير من الكتابات المنتشره في ربوع البلاد .



2- الكمبيوتر الذي قد دخل مضمار الإبداع حتى أصبح يطغى على جميع الحالات التي يمكن تصورها ، ومازال مستمراً في تطوره مما جعل الكثير من الفنانين يخشى أن يسحب الكمبيوتر من تحت أقدامهم البساط ، باستيلائه على المجالات الفنية أو يعمل على أقل تقدير على الاستغناء عن إبداعاتهم فيها . وعلى سبيل المثال كما حدث بالنسبة للخط اليدوي وفنونه المتباينة التي هوت إلى الحضيض بعد اختراع آلة الطابعة ، حتى أن البعض يتوقع أن الكمبيوتر سيتطور بحيث يأتي بالإبداعات الفنية في شتى مجالات الفن . ولا ندري هل يكون ذلك أم سيبقى رهين التكهنات فقط ؟





3- المتلقون للفنون – سواء كانوا قراء أو مثقفين أو ناقدين – وهجرهم التذوق الفني والاستمتاع بما يقوم الفنانون بإبداعه ، أو كادوا يهجرون ، ويعود هذا لتغيير القيم النفعية عند الأجيال الحديثة . فالحضارة عملت على ترجيح كفة القيم النفيعة ، بينما أخذت تهون من شأن القيم الجمالية وإن كانت أولت القيم الجمالية بعض الأهمية ، فإنما يكون ذلك بمثابة وسيلة لتحقيق فائدة ما .











س11/ قبل أن نفترق ، هل من كلمة تود قولها ؟





بلى ، وهي : أننا أمام تلك المعوقات المذكورة آنفاً أو غيرها لا نعطي عذراً للفنان المبدع – وخاصة الفنان الأدبي – ليقف في مكانه و لايأتي بالجديد الإبداعي ويطأطئ رأسه أمامها أو أمام أي أحد ، أو يخضع لتأثيراتها أو لأي أحد كائناً من كان ، وهو – أي الكاتب – يعبر عما يعتمل في خلجاته بحرية الفنان المبدع وكبريائه . كما أنوه لمن يحمل قلماً وفكراً متجدداً ، بأنني على استعداد تام وقدر استطاعتي ، لأن أضعه على الطريق ليواكب مسيرة الكتابة والإبداع فيها ، وذلك عن طريق اتصاله بي بطريق مباشر أو غير مباشر وإطلاعي على كل كتاباته المستجدة بشكل مستمر سواء أكان الكاتب رجلاً أو امرأة فالأمر سيان . فإنه لكل طموح موجه مخلص ومشجع مهتم يكون له فضل عليه .. ولا نريد سوى الثقة التامة فقط . والتوفيق من الله جلت قدرته .




















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق