جـيـن الإخـــلاص

جـيـن الإخـــلاص

حين تجلى الصبح في عيني.. كالعادة، زوجتي أرادت أن تصافح بالصحيفة اليومية ذاكرتي. ولفرط غيرتها، حتى مني عليّ.. غدتْ تخفي بالقلم الأسود وجوه الفتيات السافرات، بل وكل أجساد العاريات.. فجأة، رأيتها شهقتْ.. غارتْ عيناها، احتقنت ملامحها.. فتكسرت الصحيفة بين كفيها.. قمتُ إليها بالاستغراب ممتلئاً، سألتها لها محتوياً، فلم تجبني إلا تنهداتها..

توجهتْ إلى الهاتف، دون أن تعطيني الصحيفة، واتصلتْ، تلملم كلماتها:

- أختي.. لابد وأن أراك هذا الصباح.. تأتيني أم آتي إليك؟

استفهمت منها مجدداً، فلم أجد جواباً غير: حبيبي.. فداك نفسي.. لاشيء.. فقط أذهب أنت إلى عملك في رعاية الله. وأهدتني قبلة بشفاه جافة فوق ابتسامة حائرة.

في عملي، قرأتُ نسخة أخرى من الصحيفة ذاتها، فلم أعرف ما ألفت زوجتي.. فإذا بها تهاتفني بهدوء:

- حبيبي فداك نفسي.. ائتني وأنت قادم من العمل بصندوقٍ من ( سم الفئران).. وأرجوك لاتسألني عن السبب.

- صندوق؟!!

- نعم، صندوق.

- أمممممم.. حاضر!!.

اكتنفني المنزل، وأنا مثقل بصندوق السم.. ممتلئة جمجمتي بالدهشة.. فسمعت أصوات نساء كثر.. سألت زوجتي عن ذلك.. فلم تجب إلا بـ:

- لاتهتم نور قلبي واطمئن.. فقط أدخل غرفتك، وسأحضِّر لك غداءك وكل ما تريد .

حملتُ مزيداً من الدهشة، وغبت في الغرفة.. بينما حديثهن مصب ماءٍ هادر، ونبرة أصواتهن، تعانق الأفق تارة، وتموت بين أجسادهن تارة أخرى.. كمنشارِ حديدٍ حيناً، وكامرأة ثكلى حيناً أخرى.. لم أفهم شيئاً، فعبث التفكير برأسي:

- ترى ماذا يجري؟.. ماذا يخبئن؟ ثم لِمَ كل هذه الكمية من سم الفئران؟..

جاءت زوجتي بغدائي.. ناولتنيه بكفين أكثر دفء، تاركة النسوة تكتنفهن غرفة الجلوس.. ثم ساعدتني على نوم هادئ أخذني إلى حلمه عنوة..

في الليل، علمتُ منها، بأنها قد اقتسمت بعض السم بينها وبين النسوة، ووضعت الباقي في كل زوايا المنزل.. أكدتُ لها: بأن المنزل خال من الفئران. فقالت: احتياط .

بل طوال الغسق الذي لم تنمه، لم تترك المهاتفات.. كلمات هامسة.. تنهدات غريبة.. وملامح موشحة بحزن ووجل.. وإذا تركت الهاتف.. نظرات تائهة ساهمة، وهمهمات خفيضة لا مفهومة، أو صمت مدقع.. وإن سألتُ، أجابتني بابتسامتها:

- لاشيء حبيبي.. قلتُ لك اطمئن.. يا جنون قلبي .

فكتم فمي بقبلة طويلة، فأدخل في دهشة أخرى لفيض كلماتِ وأفعالِ الحب.

في منتصف اليوم التالي، بينما كنتُ منهمكاً في عملي، إذا بمتصل بي :

- سالم.. أنا جارك (محمد) أرجوك ائتنا سريعا.. لقد دعت زوجتك نساء الحارة كلهن وخرج بعضهن بمظاهرة غريبة..

- مظاهرة؟!! عن ماذا؟

- أرجوك، تعال واستعلم منها.

- كالشهاب ذهبتْ، وإذا بالسواد النسوي يوشح الحارة.. وشعارات: ( أقتلوا الفئران جميعها).. (لا لبقاء الفئران).. (الفئران وباء على مجتمع النساء).. وكثيراً منها.. فضلاً عن الهتافات، والتنديدات.. وزوجتي تحتل المقدمة..

- التقى وجهانا: ماذا يجري.. أرجوك؟..

- حبيبي لابد وأن نقتل كل فئران الحارة، بل وفئران المدينة.. بكل أنواعها وفصائلها.. وليأت الإعلام ليبث تظاهراتنا.. لترانا كل نساء الكرة الأرضية فيتظاهرن ويُقدمن على قتل فئران العالم كله.. بل إننا نرفع هذا الأمر إلى مؤسسات إنصاف المرأة العربية والدولية لتقف معنا وتدعم مسيرتنا.. لن نسكت .. لن نهدأ..

- ولكن لِمَ، وما المستجد في علاقة المرأة بالفئران؟!

- ناولتني الصحيفة التي تكسرت بين يديها بالأمس .. وأشارت إلى خبر مكتوب: اقرأ.

قرأت: (أظهرت إحدى الدراسات الحديثة بأن ما يسمى بجين (الإخلاص) لايمكنه أن يقف حائلاً دون تعدد العلاقات بين الجنسين في عالم الفئران، وأن جينا منه يمكنه أن يؤثر في السلوك الاجتماعي للثدييات، وأن الفئران معها هذا الجين ولذا هي تتمتع مع أكثر من شريك حياة في آن واحد)*..

- ما إن انتهيتُ من قراءة الخبر السريع، إلا وقالت:

- وبالطبع، أولئك المكتشفون سيستخلصون هذا الجين، وسيقدمونه للرجال كلهم بشكل (كبسولات، أو دواء، أو حقن، أو زراعة) علنية، أو سرية، برضا، أو دون رضا، مما سيدفعهم إلى التمتع بأكثر من شريكة حياة، دون تراجع .

نظرتُ إليها نظرة دهشة طويلة، ثم صرختُ بأعلى صوتي: أيها الرجال، فلنحمِ الفئران جميعها.

1/12/1427هـ

- الخبر نشرته جريدة الحوار رمضان 1427هـ العدد 15 بعنوان ( الإخلاص لايمنع الفئران من تعدد العلاقات بين الجنسين) وكتب هنا مختصراً.