من قاع النسيان




من قاع النسيان





الطفلُ الغض المقتول في قلبِه الحُلُم ــ الذي قذف به القدرُ البائس في بيتٍ مستأجرٍ، طيني، صغيرٍ، واهنٍ، مقمطٍ ببيوتٍ مصطكةٍ كذراتِ حديد، تتنهد في النسيان تنهداً قاسياً، ولا يبين من بينها إلا وجه بابه في آخر الزقاق الرملي النائح، في قرية تزفر الحسرات ــ صباحاً ككل الصباحات الكئيبة، أراد غمسَ حبةِ الخبزِ الصغيرةِ اليابسةِ في قصعةِ لبنٍ مهداةٍ من أحدِ الجيرانِ ليلة أمسْ.. فنادتْه أمه:

· يا اوليدي، أكل نص الخبزة، واترك النص الثاني لخوك الصغير.

فأردفتْ بهمسٍ هادئ العزف يُجْهِشُ الطيرَ في منسكِهِ:

· ياحسرتي عليه.. نام من أمس المغرب، بدون أكل.

بحسرةِ الثاكلة، نَتَلَ أشلاءه مبتعداً بعد أن أكل ببطءٍ نصفَ الخبزِ الذي أجهد أسنانه.. نَزَعَ نَفْسَهُ وعينيه اللتين تبحران فيما تبقى، تفجرتا حمماً أثناء مجيء أخيه الذي غدا يأكل النصف الآخر بذاتٍ تمتلئ بوجعِ عدمِ الكفاية.. أخوه الذي حذرته أمه بكلماتٍ متهدجةٍ، تَهَدَّجَ لها طوب المنزل الطيني:

· أكل ياولدي، وانتبه لا يَـنْدع* اللبن.

أكل الطفلُ الثاني نصيبهُ كأكلِ نارٍ وئيدةٍ شجراً رطباً، فانساق إلى زاوية الغرفة الضيقة المفروشة بفرشٍ اهترأ على أرضها الأسمنتية المحفرة.. يكتمُ سَوْرةَ شهقاتٍ ميلادها يومَ فَقَدِ أبيِهِ الفلاح قبل بضعةِ أشهر..

سقى الحقول البائسة بعينين تُحَدِّجُ أمه التي تأخذ اللبن المتبقي فيه نِتَفَ الخبز التي لا تُكاد تُرى.. النِتَفَ التي عجز هو وأخوه الأكبر أن يلتقطاها بأناملهما الغضة.. يرمقها وهي تغادرهما هامسةً لنفسها التي أفجعتْ حتى مفصليات جو البيت الهائمة الجائعة، مايرى منها وما لا يرى:

· ما ودي تلعبوا واجد، بعدين تجوعوا بسرعة.....

الأم الصلْبة التي صقلتها المحن، وصَكَّها اليتم والترمل مبكراً.. الحانقة على الزمن الذئب والثعلب.. تناولتْ اللبن منسحبة عن نظرِ طفليها في بهو البيت المكدود، فشربتهُ متمخضةً بذخائر الغصات.. تتنهدُ في خلجاتها الحِمَمْ.. يتفاقمُ في سردابها القهر.. وهي تُتمتمُ بتمتماتٍ مسرجةٍ بالحنو:

· ياعيالي.. ماودَّي هاللبن يدخل في جوفي، بس ماعندي شي يَخَلَّيْ * صدري يدر، وأرضِّع أختكم الصغيرة.



19/11/1427هـ



هامش:

(يَنْدع): ينسكب.

(يَخَلَّيْ): يجعل.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق