كتابة المرأة لم تزل في التغييم والتعتيم






كتابة المرأة لم تزل في التغييم والتعتيم





حين نقرأ عن تأريخ كتابة المرأة، نجد بأن أغلب المحاولات ظلت مكبوتة ومغيبة بعضها، وبعضها الآخر وضعت في أدنى مكان ومنزلة.



اجتمعت الآراء على نسبت ذلك إلى سيطرة الذكورة التي تريد للإمكانات الإبداعية الاستئثار لصالح الرجل فقط، مع أنها متاحة لكلا الجنسين، وما جاء التذكير إلا بسبب شروط اجتماعية معينة، حتى أصبحت كالمرض المزمن.



وفي وقت أرادت المرأة المبدعة ممارسة دورهاً الطبيعي المغيب، شهرت سيفها بوعي وخرج قلمها في شتى أنواع الكتابة من ثغرة الضعف الذكوري، ولما أثبتت قواها، فاض نقاش الذكورة حول هذه الظاهرة، ليس إلا لإزاحته خوفاً على نزع المركزية والسلطان.. فاستعمل أسلحة عدة منها مصطلحات ومفهومات ذات طابع جوهري لإلغائها، في مقدمة تلك المصطلحات مصطلح (كتابة نسائية) الذي يقول عنه محمد براده في مقاله (المرأة والإبداع) أن : ( في طليعة تلك المصطلحات المغلوطة ، مصطلح " كتابة نسائية" الذي يستشف منه افتراض " جوهر" محدد لتلك الكتابة يُمايز بينها وبين كتابة مفترضة للرجل..).



لكن بعد أن أصبح على ما أتوقع بأنه من الصعب على الرجل أن يقف أمام إبداع المرأة الذي كان سيفاً ثقيلاً استله الفحل فوقع عليه.. ذهب الرجل إلى تلبس أسلوب الالتباس بين جمال الكاتبة وجمال أبجديات المرأة، وبين حضورها الأنثوي وقدراتها الإبداعية التي تتجاوز التأنيث والتذكير إلى العطاء الإنساني والشمولي كسلاح آخر ضد كتابتها.. سعى إلى ابتكار أساليب تحاول إقصاءها، عن طريق العزف على وتر الأنوثة، وذلك بالنظر إليها كأنثى أدنى منه مرتبة، ليس فيها ما يستحق الالتفات إلا الجسد الذي يشد ويشوق ويعذب ويحيي ويميت في كل اللحظات كما كان ينظر إليها في عصور متخلفة منصرمة. وكمثال واحد، ما حصل مع الكاتبة (مي زيادة) المفكرة التي قل مثيلها بين الرجال، والممتلئة بحلم التنوير والتطوير والمعرفة في زمن (الفحولة) الأبجدية والهيمنة الذكورية، حيث توجه أغلب المثقفين في عصرها من الرجال إلى التعامل مع جسدها وترك مايقدمه وعيها.



نعم، لم يوقر الرجل المرأة لفكرها، ولم يقدرها لإبداعها، ولم يناقشها في آرائها، ولم ينتقد مقالها.. خرج بزبد الإعجاب الملتبس بشحمها الناعم قبل إبداعها.. توجه إلى كاتبة النص كأنثى يخطب ودها وملامستها وحبها، وينعم بالقرب إلى جسدها، ويشبع غريزة النقص منها، دون حرج. وللأسف لم يتوقف حتى الآن، بحيث لو سلطنا النظر على هذا الأمر جيداً، سنجد أنه يعمل بفاعلية في استخدام سلاحه الإبادي، بل أنه أصبح أكثر استشراء من ذي قبل، وأحياناً دون أن يعي مايفعل، حيث تعامل معها بكلمات أكثر استهلاكاً وبأساليب أشد مراوغة واصفة - في الظاهر لدى غير المتمرسين في اللغة - بأنها تمتدح الإبداع بينما هي تمتدح شخصيتها، وهذه بعض الأساليب اللغوية التي قيلت على نصوص المرأة، استقتها من العالم الافتراضي (الانترنت) الذي أتاح للجميع حرية التعبير والرأي، بسرعة هائلة وبسهولة مذهلة، وسأترك التعليق عليها:

1- (ما أروع قلمكِ.. خيالكِ خصب بلا حدود)

2- ( للجمال روح دافئة.. تخطو رويداً رويدا، تهم في تقبيله ..هكذا أنتِ.. يا ... دفء خلاب لا يفتأ السكون).

3- (هكذا أنتِ تأتين لتنثرين العبير في أرواحنا).

4- ( عملاقة كما أراكِ.. ونحن أقزام بين يديك ).

5- (منذ أن عرفتك مازلت تركضين وبكل كبرياء.. وسنبقى نحن نعد و نقيس خطواتك.. ونتلذذ بشعور الفخر بقربك)

6- ( لتنتشي الحروف بين يديك.. )

7- ( جميلة أنت حين تكتبين..)



ومن هنا وبصرف النظر عن ردة فعل المرأة الكاتبة تجاه هذه الأمثلة.. النص يتكلم ويتألم، والرجل (الفحل) صاحب الأبجدية والهيمنة الذكورية، ينظر إلى المرأة الكاتبة بشهوة جسدية تفضحها الحروف، ويمطرها بكلمات التملق والزيف والإطراء والمديح والتعظيم والتقديس لشخصها، كنوع من التغييب والتعتيم، فتضيع كتاباتها ومقالاتها التي تشغل الجميع، ولا ينصفها إلا النسبة المئوية المتدنية في المليون، مع أن إنصاف المبدعة إنصاف للكاتبات العربيات ونقطة تحول في النقد العربي الذكوري، حتى بعض النقاد من هم في الواقع حاولوا القرب المؤكد من كتابة المرأة ومحاولة قراءة أو نقد أو تفكيك أو تشريح أو تقديم أعمالها ، لم يقدموا على ذلك إلا لهدف التقرب إلى جسدها، وكأنهم بذلك يقدمون لها هدية تعارف مبدئية أو عربون قرب من لحمها وشحمها. ومما يؤسف له أيضاً، وما يجعل الإشكالية في أوجها ، حتى بعض النساء المتثاقفات من جنسها، ينتهجن أسلوب الرجل دون وعي منهن أثناء مدح نصوص أخواتهن الكاتبات، وكمثال على ذلك هذا الثناء: ( مشاعرك التواقة أخيه تؤجج نبضي، أنت أمام عيني أعجوبة، يغريني أثرك يدهشني).



وكمطلب نسوقه هنا، متى يرضخ الفحل الأبجدي إلى سحر حرف المرأة، عوضاً عن جسدها، فينقذه من الغبار والعتمة، وينتشله وعثاء الطريق وعفن قارعته؟.. متى لا يعي بأنها مبدعة ضمن المبدعين متوجعة تستحق أعمالها الدراسة ويسلط على رأيها الضوء والتسليم بأنها صاحبة رسالة مقدسة وذات هدف إنساني نبيل؟.. إلى أي آن يستمر هذا التغييب ودس هذا الوعي في أدراج الجحيم والموت؟..



21/5/1426هـ








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق