لعْنُ الانسياق






لعْنُ الانسياق



في الساعة الحادية عشرة ليلاً، لملم أشلاءه ذاهباً للخلود للنوم في غرفته الخاصة، وبعد أن ارتدى قميص نومه، وانتصر للظلام على النور.. دس جسده بكامله في فراشه.. ولأنه منهك طوال النهار، غرق في نوم عميق لم يقو على انتـزاعه منه سوى رنين جرس الهاتف مرات عدة، وبتكاسـل وثقل وتأوه شديد، انسل من الفراش ليجيب المتصل، بغضب: نعم ..

- ( السلام عليكم.. ) كان صوت امرأة ،جاءه بهدوء ونعومة.. فأجابها بسرعة:

- ( وعليكم السلام ورحمة الله..) وبطلاقة وهدوء وتوالي أيضاً قالتْ:

- (كيف الحال.. من فضلك، أعطني ( أم محمد )).

لم يجبها.. فقط هز رأسه، وأغلق سماعة هاتفه، واندس في فراشه وهو يردد: اللعنة.. خفافيش الليل لا تهدأ..

وكعادته حينما يستيقظ من النوم.. يحتاج إلى وقت طويل ليعود إليه. فأغمض عينيه.. دالفاً في ساحة حرب مع التفكير، ثم مع الأرق الذي فقد أمامه السلاح والمقاومة.. ويتقلب في سوحه تبعاً لتقلبه في ساحة فراشه.. إلى أن آسره التفكير في تلك المرأة التي هاتفت قبل قليل، ليتمتم:

- لماذا تهاتـف في هذا الوقت من الليل؟.. لماذا لم تتأكد من الرقم المطلوب إذا كانت مخطئة ، فالوقت حرج جداً؟.. أم تريد التسلية؟.. لا.. لا بل ربما هي مثلي، لم تنتصر على الأرق، فتنام، فحاولتْ بكل براءة مهاتفة أحد معارفها ليكون الحديث معه بمثابة قصة تحكى لها قبل النوم كالأطفال.. بيد أنها أخطأت الرقم.

تقلب علـى فراشـه الشوكي فكان الدور على الجانب الأيسر.. ضم قدميه إلى صدره.. رتب غطاءه جيداً على جسده لينعم بالدفء.. شعر بأن هناك أحداً يهمس بداخله من حيث لا يراه، ويتكلم بلسانه ، يقول له :

( لو تابعت الحديث معها، لعلمت منها ذلك كله ، وربما هي غير متزوجة مثلك فتبادلك مشاعرها..)، وما انتهى كلام من يهمـس له إلا وكأن السحب السوداء الداكنة قد غمرت سماءه الصافية وذهبت بروعتها النظرة، وأمطرت على أرضه الغناء فجعلتها موحلة.. ليقول لهامسه محفوفاً بالارتعاش:

لكنها لم تقل أنها تريدني للحديث.. هي فقط سألت عن امرأة أخرى ؟.

- بيد أنك أغلقت الهاتف على عجل، لم تمهلها فتواصل الحديث معك.. وكم تعلم بأن مثل هذه الأسئلة في هذا الوقت بالذات لا تنطلي على عاقل مثلك؟.

عاد لينقلب على جانبه الأيمن بحاله المتكوّر.. يتعوذ من الشيطان.. يدس رأسه تحت مخدته.. بيد أن منْ كان يهمس له أقوى مما يتخيل.. ليقول له:

- هلاّ جربت، لن تخسر شيئاً؟.. وخدمة إظهار الرقم للمتكلم الآخر ستتيح لك الفرصة لأخذ رقم هاتفها وتحادثها..

شعر بوخز الارتعاش في جانبه.. فاستلقى على ظهره، وربط كفيه ببعضهما على صدره، وغادر النوم شطآنه، بينما مازال مغمض العينين يرسم المشهد بريشة الوصف، ولسانه يلهج:

- لكنني لا أعرفها، ولم اعتد على محادثةٍ كهذه، وأمقت الخفافيش لا أحب مشاطرتها..
- هي مرة واحدة، وبالتأكيد ستنجح، أنت متكلم بارع، لايعلى عليك، تمتلك جرأة ليست بالقليلة. فقط ابدأ بالتحية، واعتقد بأنها ستجيب بالأفضـل.. فأضف: مساء سعيد. وستجيبك: أسعد الله مساءك. ثم قل :كيف الحال؟.. وكالعادة ستجيب: بخير. وما أن تتجاوب معك في هذا، إلا وستشعر أنت بارتياح لها، لذا قل لها: بالتأكيد أنت مؤرقة مثلي ولم يطرق بابك النوم، فتنامي.. أليس كذلك ؟.. وبهدوء ستوافقك التخمين. وبادرها فوراً: حقيقة آسف لإزعاجك في هذا الوقت المتأخر من الليل، لكنني أتوقع بأنك لن تمانعي من أن نتحدث قليلاً ريثما يغلب علينا النعاس وسينتهي كل شيء إن أردت؟. وستقول لك:(لا.. لا إزعاج، على الرحب والسعة ). وستسألك: ( ما اسمكْ). فاغتنمها فرصة لتعريف نفسك وتبدي بطاقتك وسيرتك الذاتية ولو لم تكن صحيحة ، عارضاً عليها خدماتك. ثم اسألها عن اسمها، وما أن تقول لك الاسم حتى قل لها مغازلاً اسمها ( اسم جميل.. براق.. من اختاره لك). وبخجل وابتسام ستقول: ( لا شك بأنها ، أمي). امتدح ذوق أمها قليلاً، وأكمل: هل أنت متزوجة أم عزباء؟.. وبالطبع ستلامس مشاعرها بهذين السؤالين، وربما لن تجبك خجلة.. عندها آتي لها بسؤال آخر تُضمنه ما تريد الاستعلام عنه كأن تقول: (من خلال حديثنا البسيط أشعر بأنك رزينة، وفاهمة متفهمة، وبالتأكيد تعديتِ مرحلة كبرى في الدراسة؟..). ستسمع همس ابتسامتها وهي تقول: ( أنا أتلقى دراستي في الصف ( كذا )، وأشكرك على المجاملة ). فقل لها بنبرة تشعرها بالصدق: ( أنا لا أعرف المجاملة، وصادق فيما أقول ). وسيتردد في مسمعك وقع ضحكة منها، وهي تقول: ( وأنت مهذب، وطريقة حديثك جذابة..). لذا قل لها: (أترين، أنتِ من تجاملين.. ولستُ أنا ). سترى النقاش يحتد قليلاً بينكما حيث كلٌ منكما سيثبت للآخر بأنه ليس مجاملاً. لذا عمّق الحديث أكثر بقولك: ( إذن .. اسمحي لي بأن أقول لك رأيي فيكِ بصدق وصراحة.. ). وانتظر قليلاً، لتبدي لك الموافقة بقولها: ( لا عليك تفضل.. على الرحب والسعة ). ولاسيما لتجاوبها ستشعر أنت بالطمأنينة نحوها. لهذا بادرها بقولك: (أتصدقين بأنك عندما تنطقين، الحياة تنطق بالأمل.. وعندما تهمسين، فهمس الملائك أسمع.. وبالمرح والابتهاج أفعمْ، لتنعدم من عيني النهاية.. بل ينام الشتاء والخريف ويستيقظ الربيع ، و .. و .. و.. ). وحتماً هي ستكون خجلة لسماع ذلك، ولن تتركك لتبدي المزيد، بالرغم من أنه يسعدها ذلك، وستطلب منك التوقف بقولها الممزوج بضحكاتها اللطيفة: ( يكفي .. يكفي يا بن الناس.. كل هذه مشاعر قد حملتها في هذه الدقائق القليلة؟ ). بالطبع سيحفك ضرب من الخجل، بيد أنك واصل إثبات صدق ذلك بهدوء، وستجدها مع الوقت تتجاوب معك. ثم اسألها عن أحوال الدراسة وبجل أقوالها وأفعالها. ثم غير دفة المركب بأن تحكي لها بعض الطرائف اللطيفة المهذبة، وحتما ستبادلك ذلك، ولكي لا تشعرها بثقلك. قل لها: ( حقيقة محادثتك لا تمل، ويحز في قلبي قطعها، غير أني أجد نفسي قد أثقلت عليك كثيراً، وأشعر بأن النعاس قد قاربك ، فأتركك لتنامي لأنك في يوم غد بحاجة لأن تكوني نشيطة في تلقي الدراسة، فضلاً عن أن قطع المكالمة الآن يعمق الشوق لاتصال آخر نكمل فيه الحديث بوله، وتجديد..). ولا شك بأنها ستوافقك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق