عزوف



عُــــزوف







( آه .. ) بصوت عال خرجت من ردهات حلقها المتحشرج بعد محاولات يائسة لكتمانها..



عصراً.. تقف أمام غسالة الملابس تتابع بعينيها حركتها الدائرية.. جال بصرها في أنحاء غرفة الغسيل الضيقة.. أصباغ الجدران مهترئة.. بعض أدوات تنظيف مصفوفة على رف خشبي.. أثواب متسخة معلقة على مسمار في الجدار المتشقق.. أثواب مكومة على أرض لزجة تداعب سيل الماء من الصنبور ذي الأنبوب الصدئ.. برميل يقبع في الزاوية مهشم ممتلئ بماء بائت.. حشرات صغيرة تتنقل.. ضجيج الغسالة المتعبة يملأ المكان.. خلسة تراقب احتضار الشمس في النافذة الصغيرة.. أشياء حزينة تدور في خلجاتها.. تستوي وقفتها.. تمسح باليد الأولى رغوة الصابون عن اليد الأخرى.. تجفف بطرف كمها الضيق دمعة سقطت من مقلتها.. كل الأشياء تهيج مشاعرها.. جو الغرفة الرطب يجعلها تسبح في بحر من العرق.. تشعرها رائحة المكان بالاختناق.. إحساس تأجج يدفعها لتغييره.. سحبت قدميها إلى ساحة البيت المفتوحة على السماء.. بعد أن استنشقت الهواء.. ورمت بعض أثقالها.. تذكرت أنها نسيت صنبور الماء مفتوحاً.. عادت إليه تجر أذيال الحسرة بخطى وئيدة متثاقلة.. أغلقته منحنية.. لفت نظرها وجهها في المرآة وهي تحاول الاعتدال في وقفتها:



التجاعيد .. النحول.. الاصفرار.. أقوى دليل على الرفض.. الرأس، ازدادت به شعرات الأمس البيضاء إلى الضعف.. أصبحتُ فريسة سهلة في مخالب القدر..



كانت عاكفة على النظر في محاسنها عندما باغتها أزيز الغسالة.. جففت دمعة أخرى.. أدارت القرص نحو التشغيل ثانية.. تابعت اختلاط الملابس بالصابون في الغسالة.. تمتمت: ( ليتني أستطيع أن أدير الحياة لتبدأ من جديد كما أدرت هذه الغسالة.. ) تضيف كمية أخرى من المزيل والصابون.. جو الغرفة يزداد اختناقاً.. تعزم على الخروج من الغرفة بعد أن أصابتها حشرجة في حلقها، ودوار في الرأس.. في الساحة تستند على الحائط الغابر.. ترمق أفول الشمس في السماء بضع دقائق.. يسدل الليل ستاره.. تعزم على الذهاب إلى المطبخ.. لكنها تسمع صوت أزيز الغسالة معلناً انتهاءها.. فتعود لغرفة الغسيل..


هناك 10 تعليقات:

  1. ذات يوم قرأت للنصر التماسا لمن يكتب في مجموعته الجديدة مقابل إهداء .. وأذكر أني استشكلت الأمر عليه حبا في موقعه من السرد .. اليوم أقرأ شيئا من أنفاس روحه وإبداعه .. عزوف ... اتصور أنه خروج للكاتب من الصمت إلى البوح بالألم الذي يتحسسه في صورة امرأة تقضي كل نهارها تعزف لحن إشكالية تعيشها معظم النساء، .. النصر أخذ على نفسه أن يكون نصيرا بسرده وبرمز امرأة أمام تقضي يومها واقفة أمام غسالة ثياب حتى أفول الشمس كما يبين لنا الكاتب ويصف لنا المشهد وكيفية رؤيتها للواقع وللغسالة التي يرميها النصر في القصة كأداة فنية ... هي لم تسترح والواقع أن الكاتب نفسه لم يسترح .. أشار إلى قرب نهاية الغسيل ولكنه لم يشر إلى نهاية معاناته واختتم قصته بألم لم يتخلص منه حين صعد من جديد بالقصة في سلم من الكلمات القياسية التي استمرت في تلمس مواطن الألم عند المرأة ...

    Hasan BuHasan

    ردحذف
    الردود
    1. تصوير رائع جدا لمشهد كئيب
      لماذا الاستسلام و الخنوع
      كان عليها أن تصنع الحياة بترتيب تلك الغرفة الضيقة فتبتهج بإنجاز يعيد لها الروح
      فيزيل التجاعيد و يصبغ الشيب بألوان قوس قزح

      بدرية الموسى

      حذف
    2. المبدعون هم فقط من يستطعون إيجاد الجمال .. قصة رائعة تقف عندما تبهر مشاعرك رقة أحاسيسها تحكي تفاصيل قد داعبت خلجات من عاشها ويعيشها أعجبتني وبقوة


      ورود الأمل

      حذف
  2. دوران الغسالة جعلها تفكر لو أنها تعيد الزمن حتى تحظى بحياة أجمل وتزيل كل أثر لهذه الآهة التي بدأت بها ، واقع يحكي معاناة كثيرون ، أستاذ عبدالله في مجموعتك الأولى بعث في خلايا مستقيلة أنت رسمت صورة كثيرا من الأوجاع

    ابتسامة المسك

    ردحذف
  3. عبدالمحسن المطوع

    رائع أن تكتب قصصك ...

    ردحذف
  4. بدرية الموسى :


    تصوير رائع جدا لمشهد كئيب
    لماذا الاستسلام و الخنوع
    كان عليها أن تصنع الحياة بترتيب تلك الغرفة الضيقة فتبتهج بإنجاز يعيد لها الروح
    فيزيل التجاعيد و يصبغ الشيب بألوان قوس قزح

    ردحذف
  5. أحمد المؤذن


    تمنياتي لك بالتوفيق أخي عبد الله ، سبق وتعرضت لهذا الإصدار و سعدت بقراءته حقاً .

    ردحذف
  6. Zahra Ahmad


    إنها الأماني المستحيلة حين تقف عودة الزمن سدّا منيعا بين تحققها واندحارها مع غصّة مؤلمة ربما تتشظى أكثر مع ارتحال الأيام وتلاشي زهو الأمنيات التي كانت طرية في زمنٍ ما ..
    أبدعتَ في تصوير شحنة الألم أستاذ عبدالله .

    ردحذف
  7. رفيدة الفتني ...



    البقايا المتعبة منها يبعث ألف سؤال ومائة علامة تعجب

    ماحكايتها ؟ ومن الذي خذل ؟

    أكانت ضحية ؟ ومن الجاني ؟

    نص يسافر بالخيال حيث هي وقصتها المركونه في حجرة ضيقة
    يطلق عليها [ حجرة الغسييل ]

    قرأت بمتعة

    ردحذف
  8. Aqeela M Al Huraiz :

    كانت المجموعة من أوائل قراءاتي لك

    ردحذف