بابٌ إلى جهنم




بابٌ إلى جهنم





الضبابُ ختمَ سورة َ انعدامِ الرؤية..عتمةُ الغسقِِ رَتلتْ آياتها.. الحافلةُ تَلتهمُ طريقَ السفرِ الطويلة.. تتمايل.. تخضخضُ أمعاءنا..

لا هدوء للأطفال.. حراكٌ كثيف.. مشاجرات.. لعب.. ضحك.. بكاء.. عبث..

بعضُ الركابِ يتأففُ جراءَ الضجيج.. بعضهمْ يرقبُ المشاهد.. صوتُ (مسجل) الحافلةِ يعلو بالغناء الماجن تارةً، وبالأناشيدِ الدينيةِ تارةً أخرى..

ينشغلُ آخرونَ بصويحباتهم في همسٍ مدقع.. وآخرونَ يحاولونَ حلَّ مشاكلهم العرضيةَ بصوتٍ مسموعٍ وبمشاركةِ الغير..

بعضُهمْ نائم.. بعضُهمْ منشغلٌ بالأكلِ، أو بالتأملِ، أو بالقراءةِ، أو هو ساهمٌ، أو تائهُ النظراتِ، أو الأفكارِ، أو متعبٌ، أو متوجعٌ، أو متمللٌ، أو متبرمٌ، أو مؤرقٌ، أو يتحدثُ وصاحبٍ له عبرَ هاتفهِ النقال، أو يحاول إرسال (بلوتوث) للآخرين..

الضبابُ إثرَ شدةِ الرطوبةِ خارجاً مهيبٌ للسائقِ الحذر، وعيونٌ ترقبه، وقلوبٌ متوجلةُ معه.. جوُ الحافلةِ شديدُ البرودةِ إثرَ مكيفها الباردِ الصاخبِ الممتزج ضجيجه بضجيجِ محركها وضجيجِ بعض الركاب.. و... و... و...

أمورٌ وأفعالٌ كثيرةٌ تحضرُ وتُقام.. تَختلف.. تتغير.. ولا ثمةَ رابط بينها..

في أَكُفِّ هذا التناثرِ.. الضيقِ الموجع.. الروائحِ الكاتمةُ المزكمة.. أنا مشتتُ النظرات.. الأفكار.. مبعثرٌ، متهاوي الجسد.. وأيما حدثٌ أكثرُ إثارةً يلفتني من داخل الحافلة أو من خارجِها أكونُ منشداً إليه.. أو يغالبني النعاس في الهدوءِ والرتابة..

أما زوجي التي أحتويها زمنَ السفرِ.. المستندُ رأسها على كتفي.. المتدثرة بغطاءٍ ثقيل، التي تنامُ أكثرَ الأوقاتِ على فخذي لئلا يتسلط عليها سأم سموقَ الطريق.. فجأةٌ انسابتْ يدها في يدي.. قَبَضَتْها بحنوٍ.. فهمستني: (علي....... هل تُحبني؟؟).. ثم تدلتْ يدها الأخرى إلى ذراعي فقبضتْه بتنهيدة عميقة!.

سارِ السؤالُ في وجودي مفاجئاً.. ففضحني الصمتُ خجلاً وذهولاً.. هنيهاتٌ حائرةٌ.. لم تبرح تنتظرُ غيثَ إجابتي، وقد حَلَّقْتُ في فضاءِ الاستفهامات: تُرى ما مناسبةُ السؤال؟.. هلْ المكانُ بفوضويتهِ.. بأحداثهِ المتناقضة.. المتضاربة.. المتنافرة.. مبعثٌ لمثلِ هذهِ الأسئلة؟.. أم السؤال جاءَ ليكملَ السورة؟.. أم فيمَ تفكر يا ترى؟.. هلْ لحظتْ عليّ تصرفاً يشي باللاحبِ، أو اللامبالاة؟..

كادَ لساني يَنْطقُ (نعم، أحبكِ) لكنهُ امتنعَ من حضورٍ كهذا.. شعرتُ بأن اللفظةَ تملق، ولن يكونَ لها ذوقٌ تَعهده..

غبتُ في همسٍ خفيٍ (أكان عليّ أن ألملم شتاتي وأقولُ (أحبكِ) قبلَ أن تطلبها؟..).. مططتُ شفتي.. هززتُ كتفي بحيثُ أخالتني سأتحرك، فرفعتْ رأسها، وابتعدتْ بجسدها، مستندةً مقعدها، حازمةً على صدرها يديها..

قلتُ في اعتدالٍ آخذاً بيمينها مكملاً رسالةَ الدفءِ بينَ الكفين: (الآنْ، نحنُ نعودُ منْ سوريةَ ولبنانَ وتركيا.... في السنةِ المقبلةِ سأذهبْ برفقتكِ إلى ماليزيا أو أندونيسيا، أو أي مكانٍ تختارينهُ.. وبالطائرة..) استأنستُ بالصمتِ قليلاً، فأردفتُ دونَ أن تتحرك لها شفة: (كما تعلمينَ بأن سفرنا هذا جاء بسيطاً ومتعباً بسببِ أنفاقنا المالَ الكثيرَ من أجلِ ترميمِ المنزل وتأثيثهِ من جديد؟..).. رتلتُ السكوتَ مجدداً.. فلم أسمعُ منها إلا صوتَ أنفاسها.. فأكملتُ الحديثَ: (في غمرةِ هذهِ الأضواءِ الملونةِ الخافتةِ، بالكاد يَرى بعضنا ملامحَ بعضٍ أو يميزها.. بحيثُ لو كَشفتِ عن وجهكِ لن يُميزَ صفحاتِهِ أحد..)..

شهقتْ.. زفرتْ بقسوة.. واقعةٌ في شَركِ السكوتِ.. حركتْ جسدها على المقعد.. لحظتُ من ثقبي نقابها، بأنها قد أسدلتْ رمشيها، بل شعرتُ بأن عينيها ستفرز ماءها.. دقيقة تقريباً، وبنبرةِ مسكينٍ خافتةٍ، غامرةً جسدها كقطةٍ مصابةٍ بالبردِ في جسدِ إنسانٍ دافئ، ململمةً كفيّ بكفيها.. تطوعتْ بالقولِ: لقد شعرتُ بأن هذا ما احتاجه في هذا الوقتِ بالذات!!..

تسنمتُ الصمتْ.. شعرتُ بالحممِ تشتعلُ في أجزائي.. رفعتُ رأسي عالياً.. تملقتْ عيناي بالترامي في داخلِ جفونها الحالكة.. غصتُ في أتونِ أفكاري..

هنيهاتٌ.. زفرتُ نفساً بركانياً.. تمتمتُ في دهاليزي المحترقة: أُهَنئكِ لاستطاعتكِ تحديدَ ما تحتاجينهُ في وقتٍ كهذا.. لكنْ أنا، كيفَ لا أستطيعُ تحديدَ ما أحتاجُهُ فيه؟.



23/9/1428هـ







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق