الموت بعامل التعرية



الموت بعامل التعرية







في بهو البيت جاءتْ إليّ متأخرة تحمل كوباً ممتلئاً بالشاي، ويتدفق الفائض منه مباشرة على الكتاب الذي اتخذته عوضاً عن الآنية.. الكتاب الذي طلبتُ منها إحضاره من غرفة المكتب.. أكل القهر زوايا فؤادي حتى ذهب بآخر قطرة من دمائه.. نهضتُ مشدوها مفتقداً صوابي.. اقتربت منها بسرعة، قائلاً بصوت عال على غير عادتي:



أنتِ عديمةُ الفهمِ، أم أنكِ لا تريدين أن تفهمي.. لِـمَ تفعلين هكذا.. لقد أتلفتِ واجهة الكتاب؟!!.

هذا جزائي آتي لك بالشاي، وتصرخ في وجهي من أجل كتاب ليس له قيمة ؟

ليس له قيمة ؟!!.



قلتُ هذا بينما كنت أسحب الكتابَ من بين يديها تاركاً كوب الشاي، ومن عيني تطاير الشرر، وفي داخلي احتراقات ثائرة.. أحرقت كل وجداني.. فأكملت:



يا امرأة.. إن زوجك الذي ترينه أمامك جبل قد نحتته كل عوامل تعريتك.. اُنتزع منه صموده، تهشم وانهار.. أتدرين لماذا؟.. هل أعيد لك القصص؟؟؟ .. اسمعي..



لا أنكر بأنني كنتُ ذلك الرجل الذي تعرفينه.. أتيتُ من عملي ظهر ذلك اليوم وجسدي متعب ذابل.. استلقيتُ على فراشي في غرفة نومنا.. ناديتكِ.. أتيتِ بملابس نومك مبعثرة.. لم أهتم لصورتك التي غدت مألوفة لدي.. لم اهتم قبلها بعدم استقبالك لي.. فطلبتُ منك أن تعدّي لي وجبة الغداء عاجلاً لأغفو بعد تناولها قليلاً، ومن ثم أعود إلى عملي بعد ساعة تقريباً.. لكنني أتفاجأ بقولك: ( لم أحضّر الغداء لأن أسطوانة الغاز فارغة منذ البارحة).. فاحترقتْ على أثر الاحتراق ضلوعي، ورمدتْ خلاياي.. لكنني لم أفقد صوابي، فقمت وأمسكت بيدك بهدوء، وأجلستك بجانبي على الفراش بحنو.. وقلت لك بلطف مداعبة يديّ يديك: عزيزتي.. لماذا لمْ تخبريني بذلك منذ البارحة وحتى هذه الساعة لأتصرف.. لقد كنُت ليلة أمس بكاملها في البيت معكِ، واليوم بإمكانك الاتصال بي عبر الهاتف.. لماذا؟. فأجبتـني ببرود: ( نسيت البارحة، واليوم نائمة.. ).. غضبتُ وارتفع صوتي قليلاً.. فقلت: هذه بلادة منك.. وأنا لا أحبها فيك. عندها وقفتِ أمامي بكل جرأة وقلتِ بحماقة وعلامات استياء تبدو على وجهك: ( أخيراً اعترفتَ بأنكَ لا تحبني..).. وهنا كانت الكارثة بالنسبة لي.. ازدردت غصصي.. لاكتني آلامي.. تجمدت خلايا دماغي.. فبادرتُ قائلاً بصوت عال: ( أنا لم أقل بأني لا أحبك، أنا قلتُ بأن البلادة صفة لا أحبها فيكِ.. يجبُ يا امرأة أن تفهمي ذلك.. يجب أن تفرقي بين الحديث عن الصفة أو الموصوف ).. لكن ما فتئت حماقتك تزداد، حتى تشاجرنا كلامياً بمقدار ساعة راحتي.. كلٌ منا يحاول أن يثبتَ وجوده.. فما كان مني إلا أن توجهت للخروج من البيت حاملاً همومي كالمعتاد وأنا أقول لك: انسي الموضوع، وسأتناول غدائي خفيفاً في العمل، وأرجوك ألا تنقلي موضوع شجارنا هذا لوالديك كعادتكِ.. فخرجتُ تكويني جراحي الغائرة قيحاً بآلامي.. وما كان منكِ في المساء إلا أن أخبرتِ جارتنا عوضاً عن إخبار والديكِ.. نعم، فكنا أضحوكة، وغدوتُ أمشي طريقي كمن يحسب خطواته.. هل علمتِ بحالي؟.. وهل تريدين المزيد؟.. اسمعي..



كنتُ قد وضعتُ بعض الأوراق على الطاولة الموجودة في البهو .. فبقيتْ أياماً، وحين سألتني، ولا أدري حينئذ من أين أتاك الانتباه إلى وجودها: هل تريدُ هذه الأوراق. فقلتُ لك: لا.. مزقيها وارميها. ففعلتِ. وبعد بضعة أيام أتيتُ بأوراقٍ أخرى فوضعتها على ذات الطاولة.. فأخذتها في اليوم الثاني دون أن تسأليني ومزقتها ورميتها في القمامة، ثم بعد ساعات من حضوري للبيت سألتني: هل تريدُ تلك الأوراق التي كانت هنا؟. وبعد أن قلتُ لكِ: بلى..إأتيني بها. قلتِ لي ما فعلتِهِ بها.. فكانتْ الطامة الكبرى في داخلي.. فقلتُ لك بأمل: أرجوك.. ليس في هذا مجال للمزاح.. أأتيني بها فإنها أوراق رسمية مهمة للعمل.. صددتِ بوجهكِ عني وقلتِ: ( وما الذي يدريني بأهميتها.. هل نسيت بأنني لا أعرف القراءة والكتابة؟ ). وقتئذٍ تمنيتُ أن تنشق الأرض وتبتلعني فلا أكون لحظة وإياك..



هكذا كانت حياتي معك مشتعلة بنبض القهر والألم.. ثقلاً كبيراً، كثيراً ما أشعرتُ نفسي بتحمله، وزيادة على ذلك، الآن هاأنت تقفين بكل برود وابتسام ساذج، وتقولين: ( أنا لم أفهم ماذا تقول، أنت تتكلم على غير عادتك.. لم أفهم غير أنك تحكي قصصنا وأنت تقول أنسيها..). فيا ترى ماذا تريدين أن يكون إنسان تقابله أفعال وأقوال كهذه؟.. ماذا تريدينه أن يعمل؟.. غير أن يكون ميتاً تقرأ عليه آياتك وآيات الآخرين.. يا امرأة إنني الآن فقط أعلن عن وفات قلبي، ولست أنا زوجك الذي تعرفين.. مستحيل.. لابد أن تفهمي معنى هذا على الأقل، ولابد أن تعلمي بأن الأموات في الدنيا لا يعودون.. فلماذا تصرين على تعذيبي.



يا امرأة.. زوجك مات.. انتهى تاريخ صلاحيته.. أمسى في عداد التالفين.. هذه المومياء التي أمامك كانت تدعى زوجك وليستْ هو.. هذه الملامح ليستْ كالتي تعرفينها.. أعلم بأنني بأسلوبي هذا لن أصل إلى غاية مأمولي لتفهمينني.. لكن ملامحي.. وجهي.. تضاريسي.. الآن تغيرت تبعاً لذلك، وستكون هكذا إلى يوم يبعثون، ولا تقولي لي: ( انظر في المرآة لتتأكد من نفسك ). لأني حينئذ سأرى وجهاً غير وجهي.. ربما أتذكر أنه كان يحمل وجهاً أنت تعرفينه.. لكنه الآن لن يكون هو.. إنه مات تبعاً لكلّي، فاتركيني أوارى في الثرى.. لا تشيعيني.. لا تقتربي مني.. وصدقي بأنني لستُ الذي تبحثين عنه.. ليس أنا من تريدين.. انسي أنني كنتْ، فتبعات المشكلة هكذا تكون نتيجتها..وأنا الجاهل الذي اخترتُ طريقاً كهذه.. اتركيني سأصمتْ أبتلع ثمرة غرستي العلقمية دون هضم، ولا تسأليني عن تفسير ما أقول.. لأن الميت لن يتكلم.
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق