وكان الموت مطلباً





وكان الموت مطلباً





من مسافة مهولة.. كوكب ربيعي يرسل خيوط أشعته الفضية.. لتستقر على قبعة زرقاء مثقبة تكتنف بداخلها جمجمة.. جمجمة ساكنة تغرق قزحية عينيها في تلك الموجة المائية الضخمة المرفرفة بجناحيها فوق سطح اليم، والقافزة على أخواتها لترتطم بقوة على الصخور المتناثرة على المرفأ محدثة صوتاً شجياً، يتطاير رذاذها بشكل نقاط باردة تقع على أجزاء تلك الجثة الراكدة الملتصقة بتلك الصخور والمربوطة ساقيها إلى صدرها بذراعين مؤزرين بالإرادة.. الجثة ثابتة تماماً تحت تلك الجمجمة.. الجمجمة المستقرة وراء نظارة شمسية دائرية سوداء تعكس وتخفف حدة خيوط شمس الظهيرة الآتية من بُـعد.



تلك الجمجمة، جمجمتي الغارقة في تقليب أوراقها القديمة الأليمة.. تتحسر.. تتندم.. تبلل الأوراق بماء الدموع التي لن تغسل مابداخلي.. وأصداء تتموج في وجدي، وصرخات غريبة.. فمن البعد السحيق أتتني صاحبتي موشحة بألوان رمادية.. عبست في وجهي، وصدت عني في شموخ واعتلاء.. فبقسوه حدثتها :



ساذجة أنتِ.. غريبة الأطوار .. أسلاكنا منفكة بأوهام تصدح في الغسق، هل ستبقين كما أنت؟.. تجيئين ، وتصدين، وتروحين.. أية عذوبة من وراء هذا الشباك تأملين، وهذه القيود المملوءة بالصراخ، وهذه الأوراق المتشظية، وقطع القش المتناثرة بيننا، وبقع الزيت الملتصقة على أسطح محركنا؟.. من يشتري هذه النيران بحسناته؟.. من يقطع هذه الرؤوس كي تتساوى؟..



وفي مماثلة لكبريائها، تركتها كعجوز على غير العادة أن تتركني.. فمشيت أستنشق ماكان لي.. مشيت ومشيت بجانب المرفأ الطويل.. لكنها – للأسف – لا تفترق عن طريق أنا سالكه، برغم تصادم أفكارها بكثير من أفكاري.. عاودت المشي، أترجل أفكار متجددة.. من موج بيت الأسماك، ومن نسيم شقق الأحياء الطائرة، ومما تستمد منه الشمس نورها.. استجمع فيها عقولاً إلى عقلي.. وأمتزج بأفكارها إلى فكري.. فأدعو تلك الصاحبة بالوقوف.. فتقف، لكنها تقف عند حديقة ما بعد لم تكبر شتلاتها، مابعد لم تتماسك سيقانها.. فتشم منها وروداً بلا رائحة.. خادعة.. كاذبة.. وثلثا كيانها يغرقا في هياج المحيط .. فتسبقني بسؤالها:

مالنجومك منـزوية ؟

.......

فتعاود الصدود قبل أن يندلع لساني بكلمات، وينفتح فاهي بهمهمات.. فاتخذتُ من الصخرة - التي تسامر الملح المذاب - مجلساً.. وقاعدة (استراتيجية) لرمي قذائف آهات احتراقي.. جلست أهذي وحبات الرمل والشوائب في المرفأ الزلج تماثلني.. وأعشاب البحر تسامرني.. تأوهت متمتماً :

طوب أنا .. حجارة غارقة حتى المنكبين في وحل .. قيثارة مقطوعة الأوتار .. جدران طينية .. صوت بلا صدى !!



تفهمني جيداً.. لكنها بلا مبالاة أنفها يناطح السحاب.. فصرخت في جوفي بذبذبات حسية :

أيا براءتي إني هاهنا تعالي، واكتشفي مجاري هذه الدماء.. كم هي تعج في نرجسية وابتذال؟.. كم هي قاسية بهذه النتائج كريح الشمال؟.



أتت تلك البراءة على مهب الريح.. ملتفة بثوب المهد الأبيض.. تهز شطآني، وتحاول السير في طريقي، فتباغتها الأشواك القاسية، والأحجار الظلماء الراسية، والبرودة الساذجة، والهجران الأحمق.. فبكيت.. وبكيت.. وبكيت.. ثم قالت :

ناديتني.. فأي لعبة من لعب السفور ألعبها معك؟!!. إنني أنبش قبورك وكلها ذات ألوان ممزوجة ببعضها؟.. فما أفتح طريقاً حتى تنـزلق الأقدام كلها، وما أفتح باباً حتى تحشرنا رائحة العفن، لتتوارى معها النجوم.. أي لعبة تريديني أن ألعبها؟!!



التقطتُ نفساً عميقاً.. طأطأت رأسي.. أُحرجت.. رمقتني لابعين ناظرة.. فحركتْ أوردتي وعضلاتي، والتهمت الأرض المسودة بخطواتي إلى المرفأ، ووقفت قبالتي وقالت بهدوء :



ليكن هنا الموقف.. ليكن هنا الطواف.. لتكن هذه السجادة انطلاقة الشمس، لنغير موقع الليل بموقع النهار.. ولنصليَّ في أجرامنا السماوية.. ولنسجد طيلة الأميال حتى تثبت البوصلة.. فكلانا قد ثمل في عرض الحيا ، وإلا سترى أن لي كل يوم ثوباً لا أرتدي غيره، وإن زاوله الاهتراء .



حينئذ رمقت وجهها الباسم.. فأشارت إلى رداء ناصع معلق على مسمار آنيتنا الزلالية القراح.. الصخرية عراها.. ففهمت ماترمي إليه.. فقمت من مجلسي بعجل ، وأخذت الرداء، ووقفت قبالتها موشحاً بإبتسامة .. وقلت:

مامدى صدقك ؟

إلى حد الغرق .

لا يكفي .

إلى حد الهذيان .. بل إلى حد الاحتراق .

إذن ، فلترتدي هذا الرداء .

وهل تعلم من كان قد علقه ؟

كلانا اقترفنا الإثم والذنب .

ومن أنتْ ؟؟

أنا أنتِ .

ومن أنا ؟

أنتِ أنا.

ومن نحن، إذن؟

نحن صاحبا هذا الرداء الأزلي القديم.



دفعت به إليها.. فارتدته بنشوة العاشق الوله.. ارتدته فغطت الشمس بنورها.. التفتْ حول ذاتها تستعرضه فرحة.. ثم تشرنقت به.. فتوشحت قسمات وجداني بالفرح تباعاً، فقلت:

بعد هذا الاحتضان الدافئ ، دعينا الآن نغرق في نوم عميق، ونحن صدى لهذه الذرات المائية الباردة .



قالت : بل دعنا نموت الآن!!.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق