المحفز الأقوى لفقد المواطنة والولاء








المحفز الأقوى لفقد المواطنة والولاء







بعد أن مقتَ الجلوس في شقته الصغيرة، المكونة من غرفتين 4×4 سم، وصالة 3×4 سم، ومطبخ 3×3سم، ودورة مياه واحدة 1،80×1.30سم، الضيقة، المهترئة جدرانها، وألوانها، ومصابيحها، وأثاثه القديم القليل فيها.. الشقة التي استأجرها بـمبلغ (15 ألف ريال) وهي لاتستحقه، بالكاد تناسب دخله الزهيد جداً، في مقابل ارتفاع الأسعار المستمر.. تقع في الدور الثالث من العمارة المكونة من ست عشرة شقة بنيت على مساحة أرض 325سم، لكل طابق منها 4 شقق، استأجرها وفي كل سنة يرفع صاحبها إيجارها السنوي ألف ريال على الأقل، متذرعاً بغلاء الأسعار، بالرغم من زيادة تدهورها واهترائها كل سنة.. فلا يعلم لم يعمد صاحبها إلى ذلك وهو من يقوم بترميمها وصيانتها.



ولذا هي تجلب له كآبة وضيق النفس، وتبرم واشمئزاز الروح.. فيخرج إلى الشارع، تاركاً العمارة باكتظاظ سكانها، وصخبهم، وضجيجهم.. مطلقاً عنان قدمه لتقودانه إلى حيث يشاءان.. لكنه لا يبرح، ولا يبتعد عن شوارع حيه.



يئد خطواته المثقلة، فيسلط النظر على كل التفاصيل المتاحة في الحي.. البيوتات المكدودة المنهارة المهدمة.. الشوارع المهترئة المشوهة الغارقة أكثر منعطفاتها بمياه المجاري وغسيل البيوت، بل المكسرة أرصفتها، والنادرة والمفقودة والمقطعة أشجارها.. السيارات المنهوكة المفككة المحطمة.. بل يركز النظر بدقة متناهية إلى الناس القاطنين هناك.. الضعيفة أمثاله، التي تحكي - وجوهها الكالحة العابسة الكئيبة المتقلصة - حكايات الفقر، والعوز، والمسكنة، والمرض، بضيق الدخل، والبطالة، والتعب، والقهر والذل، والمهانة.. أُناس وصل ببعضهم إلى أنهم لا يملكون من مقومات الحياة شروى نقير، فيلتحفون بالصفيح ويتوسدون الأديم.



يخرج من الكآبة خاصته الأضيق، إلى كآبة الناس الأوسع والأشمل.. يخرج هادفاً للارتياح والهدوء، لكنه - كما في كل مرة- يعود محملاً بتفاصيل الخارج أضعافاً من الألم والوجع.



أثناء التجوال هناك.. لاغرابة في أنه دائماً يتذكر حكمة تقول: ( الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن).. ولذا كثيراً مايرده سؤال، من السذاجة وقتئذ أن يطرحه بينه وبين نفسه فقط، وهو يعتقد أنه لن يجدي نفعاً، فمن يناديهم كما يقول المثل: (ننفخ في قربة مثقوبة) وكما يقول القرآن الكريم (على قلوب أقفالها).. يقول السؤال: لو سُئل وكل من يحمل صفاته المزرية، عن ولائه لوطنه، بل ودُعي إلى الجهاد في سبيله.. فهل تراه يجيب بكل طواعية ورضا وسرور؟..



وكثيراً ماكان يجب على هذا التساؤل، فتكون إجابته (لا) لاسيما حين يرى فيه حالته الفقيرة جداً، في مقابل الحالات الغنية جداً.. ولقد حاول مراراً أن يكذب على نفسه، لكنه فشل جداً جداً.. حيث هو ولاشك كأمثاله الذين يشعرون بالاغتراب في وطنه، بل يعتقد أن السبب الرئيس في هذا الاغتراب هو الحالة الاقتصادية تحديداً وتمركزاً.



إنه يتخيل ، لو أن ابناً في بيت أبيه الذي لم يهيئ له مكاناً مناسباً، ومنفرداً، ولم يغدق عليه مما يعلم الابن استطاعة أبيه، من مال، وجاه، ورغد في العيش ورفاهية فيه، وهو يريد أن يتطور، ويلحق بركب العالم المتحضر، وبالزمن المتسارع في رقية، بتحقيق جل متطلباته التي لا غنى له عنها، بل يحاول استغلاله، وإذلاله، واستغفاله، ومهانته.. فماتراه فاعلاً أمام هذا الحرمان، ألا يتولد لديه شعورٌ بمقت والده الذي لم يشعر بحاجته؟.. ولو رآه في حادث سير (مثلاً) مخضباً بدمائه، يمد إليه يد الغوث والاستنجاد، لما زفته نفسه حباً وعطفاً ورضاً لإنقاذه، إلا أن يكون شيئاً هناك يجره لإنقاذه عنوة وقسراً.



والحقيقة أنه كثيراً ما يقرأ عن ( ما الذي يجعل المواطن يشعر بالمواطنة؟).. فيجد الكثير هم من أمثاله، يحملون ذات المخرجات والشعور الذي يحمله، سواء في وطنه أو في أوطان أخرى.. بالرغم مما يتشدق به البعض، لأهداف في نفوسهم، بأن الوطن أعلى وأكبر بكثير من مسألة الحالة الاقتصادية، و(الغنى غنى النفس) و(القناعة كنز لايفنى).. فالفقر هو اقسي ما يمكن أن يتعرض له الإنسان، لأنه غربه حقيقية وخوف وألم.



لكني لا أنكر أن هناك أسباباً أخرى تجعلنا نفقد المواطنة والولاء، وتفاقم من الإشكالية، وتزيد من رفضنا وتعنتنا، وأهمها عندما نجد أنفسنا تفتقد الأمان، وتتلقى الظلم، والاضطهاد، والمقت، والازدراء، والتنكيل، والقمع، والتعجيز، والاستبداد، وإغراقها في الديون، ومصادرة حقوقها الإنسانية والدينية.



يعترف بقوله، واقعاً لو استطاع الهروب من وطنه، الذي وصل به الحال، من أجل مصلحة ما، وكانت تلك الأرض الأخرى له وطناً، بحيث تهيئ له سبل المسكن والمأوى المريح، الذي لا يطالبه أحد به، وتوفر له العمل، والعلاج، والتعليم، والعيش الكريم، بل وممارسة كل حرياته في الحدود الممكنة المتاحة والشرعيات والقوانين المتبعة، فإنه لاريب سيشعر بأنها هي وطنه من كل النواحي النفسية والعقلية والوجودية، وسيكون جندياً من جنودها التي تدافع عنها باستماتة، ولن يترك لها فرصة أن تدعوه وتستنجده، بل يتقدم لها بكل ما يملك قبل ذلك، فهو يؤمن بالمأثور (خير البلاد ما حملك).



قال بأنه ذكر له أحد الأصدقاء: (إن المواطنة لا تعنى حب الوطن العذري الرومانسي، الذي ليس له مقابل، وإنما المواطنة هي حب الوطن الحقيقي، الذي يؤدي واجباته وحقوقه للمواطن الساعي إلى وجوه التقدم والتطور.. وإن لم يؤدها، فالسرقات، والنهب، والاختلاسات، التي تنتج عنها الاغتيالات، بل والموت غرقاً في قيعان البحار، أو خنقاً، أو سقوطاً من أعلى البنايات، أو في حادث سير.. هي نهايات تفرض نفسها جدا ، بهذه الفرضية، ولقد حدثت وستحدث، وهانحن نسمع ونقرأ أو نرى بأم أعيننا عبر الوسائل الممكنة) وأضاف له أيضاً ( إن أحد أمناء الوطن، في سياق حديث صحفي له مع إحدى الصحف، اقر بوجود الفقر المزري، وإن عدد الفقراء في البلاد ناهز المليونين!! وإن هناك حزمة من الاستراتيجيات للمعالجة، وبالرغم من أن الاعتراف بوجود المشكلة يعد بمثابة قطع نصف مسافة الطريق، فإن ذلك الأمين لم يتقدم بالمعالجة من خلال الحث أو قيامه بتطبيق استراتيجية مكافحة أو محو الفقر وقتله، لأنه يؤدي بالضرورة إلى الاغتراب النفسي، ومجتمع يغترب عنه أبناؤه نفسياً، ويل له)، وإنه ليبصم مع صديقه بالعشرين، إذ كيف ينتمي إلى وطن يطلب منه الموت من أجله في حالة انعدام سلامه، وهو في حالة السلام والرخاء، لا يعنى به؟.



قال: هو لا يريد أن يكون من أثرياء العالم الفاحش، ولا يريد أن يعيش في بذخ وإسراف، بل هو يسعى لأن نعيش حياة طيبة يتوفر فيها العيش الحافظ لكرامته، المرضي لنفسه التواقة للعدل والاتزان، كما أنه ليس ضد التفاوت المعيشي، وطبقات ودرجات الناس، لكن الفقر المدقع، يدمر الوعي والعاطفة، ويحث على السلبية، ويسبب الصراع الطبقي.



هذه هي الحقيقة التي تسكن بداخله، والتي لا يستطيع أن يتفوه بها بكل حرية، كما لم يتفوه بالكثير من آرائه في وطنه.. مع أنه يستغرب أن يكون وطنه مليئاً بالخيرات، فلا يحصل منه على شيء.. إنه مؤلم لرواحه، مُهتك لنفوسه كما يدعي، بل وذلك كما يقول مدعاة إلى عدم التورع في فعله للفساد، كما فعل ومازال يفعل الكثير في وكنه، ممن صعد ولم يزل يصعد على أكتاف الضعفاء، ووصل إلى ماوصل إليه من الغنى الفاحش، بل إنه يعترف بكل جرأة إن هذا يحرضه إلى أن يخرج مقاتلاً في سبيل تلبية تلك الحقوق، ففي المأثور أيضاً(عجبت لامرء لا يجد قوت يومه فلا يخرج مقاتلاً شاهراً سيفه) و(أحذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع ).. لكنه يعود مهدهداً ذاته وغضبها، بقوله: بالرغم من ذلك الجرم كله، لن يصل به الحال إلى فقد أعصابه، وضميره، وإنسانيته، ودينه أيضاً، فلولا هذه الأمور الطيبة الفاضلة، ولولا أن الله جعل هناك يوماً سيُقتص فيه من القوي للضعيف ومن الظالم للمظلوم، لم يصبر ولم يذعن لما يكون ويمارس عليه.












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق