الرسالة (2)


الرسالة (2)

حين التقى الجنون بالجنون

بقلم / عبدالله النصر







بعدما استكان دمك بين أنفاسي.. عببتُ بهيامٍ من تشضِّيه فاستحالت دنياي قبرا.

منى .. يا وجه البحر في الهدأة، و خصلة الشاطئ الربيعي..

مازلنا شهوة الأقدار الحزينة، و لعبة الأيام المريرة.

قرأتُ الألم بالألم.. ماذا يمكنني أن أقول؟.

سجلتُ هذا ضمن قوائم فشلي.. آآآآآآآآآآآآآآآآآه.. آه.. هذا الفشل الذي يئد خطاي الحالمة!

فعذرا عزيزتي.. عقلي قادني لأن أضع ألمك و البكاء جانبا، ليس تجاهلا.. بل لن أكون كنبي صالح يهبك الموعظة و السكون.. فمكاشفتك أراها لا تحتلب هذا الفيض المعروف.

وبالطبع .. حد اللهفة سأنتظر بوحك عن كل ما تبقى من آلامك، أفراحك، آمالك، طموحاتك، رحلاتك العلمية و العملية، اكتشافاتك، زملائك، عن محمود الذي يشبهني في الفعل و يؤاخيني في طريقة القص، وعن محمد شكري - رحمه الله – الذي أشعلت شوقي لمعرفة المزيد عنه، و أمثاله.



مناي، كعادتي حين أغرق في الحزن، أضحك، أضحك، وأضحك!.. والعكس تماما حينما أغرق في الضحك.. كعادة الجميع!.

أتصدقين، محبوبتي منى.. طلقوني ثلاثاً بعد نهاية النشرة الإذاعية المباشرة.

صرختُ: لم أضف ذلك على النص من شعور.

قالوا: بل ليس مسموحاً لك بأن تتخيل أيضاً في مثل هذه اللحظة.

قلتُ: كانتْ معصيتي مباحة شرعاً.

قالوا: وإن.

قلت: لن يرضي الشعب العربي هذا، فأنا معشوقهم ربما سينتفضون، ثم ألا تكونوا منصفين، أنا صاحب خبرة طويلة متميزة لديكم.

قالوا: دعك من الهذيان.. أنت مُقال.. مُقال.. مُقااااااااااااال.

زممت شفتي، قلت: أمممممم.. ليس بغريب على الصحراء مصادرة بوح الزهور وإن كان حلالاً وقتل رواده بثقة!

قبل إصدار مجموعتي القصصية الأولى (البعْث)، قيل لي: (امرأة لكل شيء) و ( الموت بين أحضان امرأة). عنوانان جنسيان، يجب تغييرهما!!..

ضحكت وصرخت في داخلي: هاهاهاها.. ياللوعي!!..



قبل بدء دقائق النشرة، كنتُ أعيش نشوة انتصاري بجنون عشقك.

أفكر، كيف أقيم له في قلبي احتفاءً؟.. كاحتفاء بعضنا بخلق (محمد)، ذلك الذي علمني كيف أستلذ بخمرة حبك شرعاً، وكنتُ أتخيل كيفية تسجيل هذا الحدث على أنصع ورقة للتاريخ؟.

بل كنتُ أفكر، بأن أجعل البشرية كلها تقيم له يوم عيد خاص تُلبس فيه أنصع ثيابها البيضاء، وأجعلهم يهنئون بعضهم بعضاً بتلاقي العطور، الكفوف، الأعناق، الأثداء، الشفاه، والأهلة بالعقود.

نعم، كنتُ سأقيم عيداً يكون نداً لعيد القديس(فلنتاين VALENTINE)، لكنني شعرت بشيء من خيبة الأمل!. نعم، خيبة أمل..

هه.. هه.. هاهاهاها.. لقد تذكرت أني واسمي عربيين!!.



وهناك جاءت الخاتمة.. فانهالت عليّ مطرقتهم بصلافة: دعك من الهذيان.. أنت مُقال، ثلاثاً.

أي هذيان ذاك؟.. لا أعلم!!



لا أدري لِـمَ الحياة كلما هربتُ من الحزن أعادتني إليه؟

أيَّةُ شراسة تلك؟.. بل أيَّةُ نذالة؟.

اكتنفني صديقي فاضل زميل العمل، هدأني مالم أهدأ.. حشد كل مشاريع الأمل أمامي عوضاً عن العمل في الإذاعة.. خرجتُ من البيت لمحاولة تحقيق شيئاً منها، ولكن ـ وآهٌ، آهٌ من اللاكن الاستثنائية هذه، التي تنحتُ بهدوء جسدي وجوهري في جل انطلاقاتي ـ وُئِدَ البحث في خَرِبَةِ القهر التسويفي والطرد، وانكفأت على علاّتي بين دائرة وأخرى. كما لو أنني أحد الفقراء الذين يتكاثرون في بلادنا عند الإشارات الضوئية.



لقد رأيت كل شيء يحاكيني.. جيبي الفارغ.. سيارتي المتعبة.. تلاقي الصفرة بالزرقة.. جفافها، يباسها، تكسرها، وبقعها السوداء!. الشوارع المحتضرة، التي توزع القهر، الدمع، الشتاة، والتيه. وأناس مثلي بقلوب ناعية حظها العاثر تقضي أيام راحتها من عناء الأعمال و نصبها في النوم، وبالنوم.

ولا وسيلة تدفعنا لتغيير هذا الواقع.

وكم أنت محقة في كرهك لهذه الكلمة.. فأنا أكرهها مثلك.. يالها من محصلة حقيقية للألم والهم اللذين نكرههما حتى وإن كنا لحظة الانهزام نعلم بأنه يجب أن نزرع الأمل في نفوسنا ونسير عليه، وإن كان واهنا!.



أعتقد بأنني قلت لننسى الحزن والألم.. هه.. على مايبدو استحالةً ينسيانا.

أصبحنا ثمالة أقدارهما بلا خلاص ولا إدراك لحضيضهما.



أكاد أُجَن وأنا أسرد لك هذا التخبط.. أريد التكلم كثيراً.. أحدثك عن كل شيء، لا لشيء سوى أن أتحدث إلى من يفهمني.. أنت أيضاً تريدين أن تتحدثي معي بسخاء، لكن لا أدري من منا سيتحقق له ذلك بشكل كافٍ، ومن سيلقى الاهتمام الوافي من الآخر حد الاطمئنان؟. ومن منا سيقتل لهاث الآخر؟.

لدي الكثير أحمله لك عني.. لكن ـ يا تنهيدة السِحْرِ، يا لطمية الشفاه ـ سأتوقف لأن لا يشاغبك الملل، وإن كنت تألفين ثرثرتي وتستقبلينها برغبة جامحة خفية ويقيناً ذكائي يستشعرها.

سأبوح في سطور رسائلي اللاحقة حيث فيضي المُغْرِقْ وروحك العطشى كروحي... وأأمل منك أن تقومي بنشر ظلامتي في الصحيفة التي تعملين بها، أو أعملي حواراً لي عن سبب إقالتي من وظيفتي ليقرأ الناس عن هذا المذيع الذي أخذ بتلابيبهم، بل عن هذا الكاتب المهظوم.



آه.. نسيت، آسف جداً.. نسيت أن أبارك لك عملك الجديد.. ألف ألف مبروك، أنا سعيد بهذا جداً.. آمل أن تمارسي حريتك بهدوء.. دون هم.. دون حزن.

وإن كان ذلك، فالأهم منه أن تتذكري بأنني الآن أعيش على حبك بما لم و لن يخاله عقلك أو يخاله عقل بشر.



إلى اللقاء يا نظيرة الألم، وسفيرة الأمل.

عيشي من أجل جنوني ليكتمل جنونك.












هناك تعليق واحد: