امرأة تعانق الألق



امرأة تعانق الألق





الحافلة بهدوئها، وهدوء ركابها، وبصوتها المنتظم الرتيب يبعث على النعاس.. ومن خلال نافذتها الزجاجية المغلقة تبدو مسطحات صفراء وسهول قاحلة لا نهاية لها، تمتد في كل الاتجاهات.. مسطحات صفراء شاسعة تغطيها أشجار صغيرة بلا أوراق.. والسماء تكاد تكون صافية لولا بعض الغيوم البيضاء.. والشمس ترسل أشعتها بهدوء وتعم الأمكنة.. هذا المشهد الرتيب، والتدقيق في جوانبه، يجعلني أثني المقعد، وأتمدد عليه، وأربط ذراعي على صدري، وأسلط نظري إلى سقف الحافلة.. لا توجد بي رغبة في تغيير الروتين بـ( الكتابة أو القراءة ) المعهودتين.. ولذا أتمنى أن أنام قليلاً.. ففكرة النوم تبدو لي معقولة جداً، بل ملحة.. أعاود النظر من النافذة.. الشارع الطويل الذي يغوص في البعد الأصفر، يكاد يخلو من السيارات الأخرى.. أستمع إلى صوت محرك الحافلة الخفيف.. ورويداً رويداً تغيب كل الأشياء..



إشراق هذا اليوم أكثر تألقاً، ونسيمه أكثر لطفاً.. حينئذ كنت أقف في ساحة بيتنا انتظر خروج (ولاء )، وتتربع على شفتي ابتسامة بسيطة، والشمس تجعل من أوراق الأشجار - المتدلية في ساحة البيت - تبرق، أما النسيم فيجعلها ترقص بهدوء.. تتأخر (ولاء ) قليلاً، فاجلس على مقعد خشبي بجانب سياج الشجرة القابعة في وسط الساحة.. هنيهات.. فأجد (ولاء) تتنقل بخفة النحل من غرفة إلى أخرى.. وأنا أنظر إلى جمالها وقوامها الساحرين.. تحملني بحركاتها المتزنة إلى عالم السعادة والفرح.. فتأتي راكضة.. تقول:

معذرة، لتأخري عليك !



كانت ترتدي عباءة سوداء تغطيها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها.. ولا يظهر إلا وجهها المستدير من خلال تركها غطوة وجهها مسدلة خلف رأسها.. وقفت وبيدها مجموعة كتب متنوعة، وقلت لها بابتسام:



لا عليك فهذه أول مرة.. هيا نذهب فالطريق أمامنا طويلة حتى روضة الأطفال.

ابنك الأصغر بمشاكسته الغريبة اليوم، هو من أسرف في الوقت، لكن إن شاء الله لن نتأخر ..

إدارتهم شاقة .. أليس كذلك؟

هبني ثقتك فقط، وسيكون الأمر لطيفاً وشائقاً.. كهذا اليوم الجميل.

أنظر إلى عينيها الجميلتين، وأقول:

ستكرمين هذا اليوم في مجلس الروضة ، وربما يتم ترشيحك نائبة لمديرتها !!

سأرفض هذا بالطبع، لأن هذا الأمر سيبعدني عن تأدية رسالتي مباشرة من خلال أولئك الأطفال.

ولكن..



حينها انتبهت فجأة على هزة الحافلة القوية جراء مطبات صناعية بالطريق.. أفتح عيني.. كانت الحافلة تتمايل وتسير ببطء.. وعيون الركاب متناثرة نظراتها هنا وهناك، واجمة أفواهها.. ومن النافذة ظهرت نقطة تفتيش مرورية قديمة لا يوجد بها بشر.. عاودت الحافلة سيرها الحثيث.. فعدت أغمض عيني ببطء، لتعود الأشياء تغيب شيئاً فشيئاً..



ساحة المدرسة مكتظة بالطلاب.. وعلى جدران المدرسة شعارات ذات ألوان عن القدس..

( ستعود القدس إلى أهلها )

(القدس الأبية للشعب الأبي )



وهمسات جانبية في بعض الزوايا من المعلمين ومن الطلاب لبعضهم البعض.. ومدير المدرسة يتفقد رعيته.. دقائق.. دق جرس إنذار انتهاء الفسحة.. وفي الصف بدأت درس التأريخ.. رفع أحد الطلبة سبابته:

يا أستاذ.. لدي سؤال.

تفضل.

في ظل هذا الوضع المأساوي لفلسطين، هل يكفي بأن نغضب ونتألم فقط ؟



سكنت، لكن صورة (ولاء) سرعان ما مثلت في ذهني، تذكرت بأنني سألتها ذات السؤال، حينما كنا نتسامر في البيت وقت الفراغ.. فأجابت: ( بالطبع لا )، فبادرت أسألها: ( إذاً.. ماذا علينا أن نفعل؟!!) ، فأجابت بكل بساطة وهدوء: (نشجب.. نستنكر.. نهتف.. نرفع شعاراتنا..). ولذا قلت للطالب ذات الإجابة، لكنني حين أردت أن أضيف شيئاً.. اعتلى صوت سائق الحافلة.. فانتبهت وهو يقول: ( هيا.. من لديه حاجة من هنا فليقضيها، ويعود بسرعة..) .. كانت قد توقفت بنا الحافلة في محطة للبترول.. ترجل بعض الركاب، أما أنا فبقيت مع من بقي.. وعلى حالي لم أتحرك.. استغرقتْ وقفتنا نصف ساعة من الوقت وأنا أشتت نظري إلى معالم المحطة.. ثم عاودت الحافلة في عزف أغنية السفر.. فعاد الجميع في شبه هدوء تام.. وعدت إلى النظر من النافذة.. خيل لي بأن الكثبان الرملية ستلمع من قوة حرارة الشمس، أو أن ذراتها تتبخر إلى أعالي السماء.. كنا سنموت حراً لو كنا خارجاً.. لكن هوائي الحافلة كان بارداً بما فيه الكفاية.. كانت الساعة تشير إلى العاشرة وعشرين دقيقة صباحاً.. استنشقت نفساً عميقاً.. تثاءبت ملء صدري.. أحسست بأني أريد أن أستنشق أكثر من هذا الهواء البارد.. أشعر بأنه سيطفئ شيئاً من أوار أحشائي.. أغمضت عيني.. السواد ينتشر يغشي كل شيء..



ليلاً ( ولاء ) كانت آتية من غرفة الأولاد.. أغلقت باب غرفتهم بهدوء، بينما كانت ترسل لي ابتسامة لطيفة كعادتها.. أنوار البيت كانت خافتة.. ذهبتْ إلى غرفة المكتبة وأتت بمجموعة من الأوراق والكتب.. جلستْ بجانبي.. سألتني بهدوء:



عزيزي.. أتريد أن أحقق لك شيئاً ؟

لا، شكراً لك حبيبتي.. ولكن ماذا ستفعلين الآن؟

أنسيت بأنه في الليلة المقبلة، ليلة الجمعة، سيكون لقائي ببعض أمهات البلد كالعادة؟

آه.. نعم.. نعم.. وبالتأكيد تعدين لمحاضرة جديدة.

بالطبع عزيزي، وسيكون عنوانها عن ( كيف تتعاملين مع أبنك حين بكائه ؟).

بلا ريب أنت ممتازة، ولكن أليس في ذلك جهداً مضاعفاً عليك ؟

أبداً، فهذا من صميم رسالتي التي أتفانى من أجلها، والأهم بأنه لا يضايقك !!

لا.. لا.. لا حبيبتي.. أبداً فكل شيء كما ينبغي، و..



وهنا انتبهت فجأة.... وكانت الحافلة تطأ مطبات صناعية تهزها بكاملها.. استرقت نظرة إلى الركاب، فكان بعضهم يرتب جلسته، وبعضهم يهمس إلى من بجانبه، والبعض الآخر تتناثر نظراتهم من النافذة على معالم الطريق.. فنظرت أنا أيضا من النافذة.. فرأيت بأننا قد اقتربنا من مفترق طرق.. كان الارتجاف يعم جسدي.. عدت أسند ظهري إلى المقعد، ومواقف (ولاء ) لا تبارحني في أحلامي، أو في يقظتي.. كان صباح يوم الخميس آخر صباح جمعنا.. كانت بجانبي في مقعد السيارة الأمامي، وأبنائها في المقعد الخلفي.. كنا نسير إلى السوق لقضاء بعض متطلبات المنـزل.. ففاجأتنا في أحد المنعطفات جاءت سيارة متهور إلينا وجهاً لوجه.. لم أتذكر شيئاً بعدها، سوى صرخاتنا حينها.. لكنني بعد أن أفقت من غيبوبتي في موقع الحادث، رأيت بوهن وجه ( ولاء ) الفتان يصبغه الدم.. وجسدها جامد كأحجار رصيف الطريق الصفراء.. وكذا أولادي الاثنان أفجع حالاً من أمهما.. وصوتي مخنوق.. وعقلي مذهول.. وجسدي مليء بالجراح والكسور..



تساقطت دموع عيني الآن.. تذكرت ابتسامتها اللطيفة ليلة ذلك الخميس التي أخذت بتلابيب صدري.. وحينما كنا نتبادل الدفء.. كانت تقــول: ( بعد عودتنا من السوق يوم غد، وترتيب حاجات البيت، وإعداد غرفة ألعاب الأولاد لهم.. سنتناقش في موضوعك عن فلسطين، وستناقش به طلابك في المدرسة؟.. ) . فتبسمت لها، وشكرتها لاهتمامها وبمشاركتها ما يهمني حتى بمافي خارج البيت.. ولكنها الآن رحلت بلا عودة وأخذت أبناءها معها.. وتركتني وحيداً لهمّ الدنيا وغمها.. تركت بلدها مخضبة بالحزن وألوان السواد عليها.. لم يمهلها القدر لتفي بوعودها معي، ومع أطفال المستقبل، ومع نسوة مجتمعها.. وهاأنذا أرحل من المدينة التي أقطن بها، والتي أؤدي رسالتي التعليمية فيها .. كنت قد طلبت نقلاً منها إلى مدينة أخرى لئلا تفجعني أكثر الأمكنة التي ازدانت بوجود (ولاء )، وعبقت برائحتها الطيبة.. سنتان وما عدت أستطيع تقبل ذلك الوضع.. شددت حيازيمي للرحيل وودعت (ولاء ) وأولادها، وأرضها، وسماءها.. لأبقى أعيش على ذكرياتها.. جففت دموعي.. نظرت إلى الركاب، مازالوا شبه هادئين.. نظرت من النافذة الزجاجية، مازالت الشمس الحارة أيضاً تسلط أشعتها على المسطحات الرملية الصفراء، وأتخيل ذراتها تتبخر نحو السماء، والطريق الممتدة في عمق المسافة يكسوها السراب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق