شـاربُ الوحْـل





شـاربُ الوحْـل







عندما اجتزّ الليل جذور النهار، ودلفت غرفتي بخمول وذبول، وأطفأت المصباح الكهربائي، ورميت ثقل جسدي على سريري الخشبي، وسلمت رأسي مخدتي.. هفهفت أشرعة خواطري مع السواد، وتصادمت تمتماتي مع الهدوء، لأنطق: ( من يشرب وحل هذا المستنقع، فلا يحزن، وينغمس في أديم هذا الليل، فلا يأسى.. وتُزرع في ردهاته أشواك هذا الحصار، مثلي، فلا يتألم؟.. إنني كلما خطوت بأسقامي على حجر الدهر، تعثرت في قدوره المسودة، وكلما اندفعت في جريي للأمام اصطدمت في عالمه المركبة خلاياه من كربونات صدئة، وكلما نظرت إلى اللهيب الأحمر يجور بألسنته، ويتقطع قطعاً لا تلبث ألا ترى، يمر على ذهني فيء نجومي.. كم في هذا الليل البليد تقهرني تلك الإشعاعات التي أنشدها فترفض الإتيان لابسة ثوبها الأبيض.. وكم أرتدي قبعاتها لأغطي صحاري ذاتي، فأجدها مقطعة تأبى الترقيع.. وكم أغوص بأثوابي في كثيب أضوائها، فلا أجدها تنظف بقعها المنحوتة على السفوح الخافية؟..)..



وعلى الأثر أتأوه.. وبوله مجنون أشعل الأنوار محاولاً العبث في تلك المتون المكتظة بنتاجات الألباب.. أتصفحها ورقة ورقة مكسراً أطرافها.. قاهراً لحظات الليل، موقظاً الصخب.. متربعاً على ضفاف القمر.. رافعاً أستار ملذاتي عن نوافذي العاقلة.. مسوداً الهوامش.. مبتلعاً كل المعاني ابتلاعي ما ترمقه قزحيات جفوني.. فأجد جنديها المجاهد شاهراً سيفاً يعلو بريقه، وكأني به يقول بثبات ويقين بيتاً شعرياً:



سيأتي حمامٌ ليضوي النهار ويجلي غماماً بناه الشرار



فابتلع عبر مساماتي أوار اشتعالات الحياة، واسند ظهري براكين الأرض، رابطاً أناملي بكفيها على رأسي المنهوك.. أمزج هواء غرفتي بزفير انحسار صبري، لعدم القدرة على تكسير هذا الحاجز الحديدي.. فيلتحف الأديم بالأديم.. وتتشابك الأغصان والجذور.. فاستيقظ على رنين السبات.. لتأتي أناس تسبح في أنهار ذلك العالم الذي يأبى الانتماء.. فتسألني:



لماذا تغرق ذاتك في غياهب الدهور.. إنها عاصية عصية؟



فأجيب بغضب:

إنها إنسانيتي.. هويتي.. ضميري.



فولت تلك الأناس، وغفوت في عالمي من جديد، فأراني كراكض أجهده النصب يلتحف بمسيل العرق.. ترفض رئتي هذا الأكسجين الملوث بزفير الجحود. وبالأنامل والكفين أضغط على الأوردة المضطربة الملتحفة صلب العظام، أضغطها بقوة ضغط الأرض على نواتها، فيأتي الانفجار: ( لماذا علينا أن نصبر أكثر من ذلك.. لماذا ؟.. ). وهنا تزداد الغيوم تراكماً وتغيب الشموس، وتتجمد الخلايا العاقلة.. فترفعني قدماي عن حرارة الاشتعال والسرير، لأرى التماثيل منصوبة في جمود لا يقاوم.. رافعة رؤوسها في جلال وغرور، تأمر بألسنة حداد، ورعونة شرسة، أن يجتز البرسيم الصغير من فوق الأرصفة في الشوارع الحسان، أو يركع النخيل تحت أقدامها دون نقاش.. أرى الحجارة الصماء قد نبتت لها أقداماً كبار خطواتها تلتهم المسافة بالأميال، ونبتت لها أذرع طوال تأتي على الملتصق في السقوف قبل الذي يلتصق بالأرض.. أجول في أمعاء الحياة واللاحياة، اشتم رائحة الدمار كمن يسكن في فوهة المدافع التي لا تقف عن العمل.. فتلتف يداي على عنقي، فازداد اختناقاً، وأفيض عويلاً وجدانياً.. فـيُطرق الباب طرقاً هادئاً.. لأفتحه بتثاقل يموت على الأعتاب.. ليدخل في رحم اللب إنساناً جميلاً، له هيبة وعزة.. يدخل بهدوء وأنا مشدوه، ويجلس على أريكة كانت هناك، فيناظرني ملياً.. ويقول :



كلنا ننهج نهجك، ولكنا نسلم لهذا الواقع المر.

تسلمون؟!!.. كيف هذا، وهم لا يهتمون إلا بإزالة البقع السوداء التي تلتصق بأثوابهم ؟

قد طرقنا الحديد، ولكنه تفتت.

ربما لم تجيدوا الطرق، ولم تأتوه في مواقعه.

لا.. ليس هذا، لكنهم متجاهلون.. يسوفون.

وإلى متي؟

كما قال لك ذلك الجندي:



سيأتي حمامٌ ليضوي النهار ويجلي غماماً بناه الشرار



أي نقف هكذا.. ونصبر فقط ؟..

لا.. بل إن استطعت أن تعمل، فاعمل، ولا تنس أن تبدأ بصياغة بنفسك.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق