أبـجديـات آدمـي






أبـجديـات آدمـي





لاشيء فيّ سوى الرياح تتمايل، وأصداء غريبة.. يتردد الصدى ويتراجع في أنابيب وحشتي، والليل عزلة محزنة تخيفني.. أرتدي فيها فحمة لحظات عمري الغابرة.. لا شيء فيّ سوى شجون ترفرف أمام السحاب، وضروب من السكون، وأنواع من الصمت كالتماثيل المنصوبة.. وخيوط تغزل على أنامل الارتعاش هي أوهن من بيت العنكبوت، وغمام الأمطار تتقاطر في جفافي.. لن تقوى على إيجادها السنين كلها، فالبياض خافت في عيون مقرحة، والسواد الصادي يقترب كالشهاب بنار تتأجج.. وهاهي روعة الرؤيا تذرها أكفاً عبثت بالرمل على مرفأ السكون.. وكل إطلالة للـدموع سقيا لأشجار الأثل الغائصة في أديم الهواء، وتتسخ الأجواء، وتولي الشموع التي تنظف الليل بهدوء.. فيصبح كل الذي أتلمسه يرتدي أثواب الكفن.. وكأن اليوم دون الأمس كترجيع المزامير.. وكأن البراري غدت أكثر اتساعاً من ذي قبل، وترجيع صرير الأبواب بين قلبي الآن.. لا أجد من يفهمه؟.. فالكهولة مأهولة بالقاطنين الذين يتخذون ألوان خط الاستواء.. وهناك تتعامد الشمس على كف القدر..



هذا الانزواء.. هذا التوحد.. تحت جذوع النخيل.. يكورني.. يعدم طولي.. لأصرخ: ويل لشقاء الخليفة في الأرض.. إنه يرتل أسقامي في أزقة الاختناق.. ويغلق النوافذ الصماء على آباري المعتمة فلا يصل إليها النور.. فأي ذنب لي ؟.. ألتلك الغابة خلقت؟.. أم لوحشة المر كانت مجاري أحشائي ؟.. أم لِـمَ، ولماذا أكون ؟.. إنني أقتات في أرق الحلكة من آلامي وحرماني، ندمي، حسرتي.. وما من يشهر سيفه أمام الأعداء بجانبي.. لذا في كل وقت تقول لي ابنة عمري:



أفق .. نعم أفق من غيبوبتك، فالأرض ليست أرض خصبة كما ينبغي..

فأجبتها بأمل:

وهل يجدي التقريع ؟.. إنني أريد أن أخرج من غرفتي الضيقة.

عبثت في وجداني، ثم قالت :

إن أشواكك تغرس في أجساد ميته، ولذا أقول لك (أفق ) واتخذ بعداً أمدياً لخلايا بصيرتك.



قلت: سأحمل كفيّ، وشفتيّ، ولساني.. لأغتال سكون الليل وإياهم.

تلاعب نظرها في الآفاق ثم في الدنى اللينة، وقالت:

من ؟.. إنني لم أرَ هناك أحد، كما أنني لا أرى أحد هنا.



قلت: إذن، أنت لا ترين كما أرى، ولا تسمعين كما أسمع، ولا تشعرين كما أشعر.. فإياك وتثبيطي .



فرحلت عنها أقلب الروح على وتر من حزن إذا شرب ماء عيني لا يبلى.. أتقلب في وجود أمعائي كطائرات نفاثة تؤدي الاستعراض في الهواء.. محملاً بالطين الأسود عن صمت لأحياء آدمية.. وتغيب الشمس في كثبان الحلكة.. لتنبت أشجاراً عليها أشبه بأشجار حولية.. تعتصم بالصمت.. تبحث في الزوايا عن قاموس لفك الطلاسم والرموز.. فتسألني تلك مرة أخرى:



هل في الأفق نجمة سواك ؟

ربما.

لا صوت لها !

وهل للنجوم صوت في يومنا هذا ؟

بلى.. وللساقط صوت..كما للنائحة أصوات تتدافع وتتشكل.

لن أغني في الشيخوخة أبداً، ولن أهذي في الشوارع الرملية.

لا تغني، بل أعزف، وسترى هناك من يرقص.. إنهم لا يجدون سوى الرقص.

آه.. لعل هذا ما سيكون.



تلفعت بجلبابها الأبيض وانغرست في أبعادي التي بالكاد أعرفها جيداً.. وما فتئت أشرب البياض - الذي ينهل من قشور دهري – ولو كان حامضاً.. فقطرة، قطرة تسقط ملوحة أرضي بعدما تختال في أعماقها الأضواء بين السحب.. لتحاكي ذلك المهد الذي ابتدأت تنهل منه أسراب الشِعر المعلق، كسرب من النمل يحمل مالم يتحمل.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق