رماد تفترسه البربرية




رماد تفترسه البربرية





( إن تشعر باهتمام إنسان ما، تُحَـلِّقُ به نشوان)

هذه فارسة تمتطي خيلي منذ أن كان رفيق الدراسة (سامي) يوقظ لي استفهامه كلما ابتذلت عيناه في عينيَّ: ( ألم يحن موعد زواجك؟).. كوْني يَنْصُتُ ويَسْبَحُ في كوْن الحياة حين أسمع منه هذا الاستفهام.. آلهة نشوتي ترقصُ على ألحانِ ملائكتها داخلي.. ولذا قرعتُ باب سمعه ومغناطيسيته تجذبني إلى صدره:

- قريباً .. قريباً، يا أعز إنسان على قلبي.

لكن حين سافرت الأيام وكرر لي السؤال ذاته.. أجبته ببسمة فتاة في يوم خطبتها:

- الأسبوع القادم بتوفيق الله.

- أحقاً؟!!

سأل مملوءاً بالفرح، بينما يميني تتلبس يمينه بهدوء حتى التعرُّق والامتصاص.. فبادرتُ (نعم).

سامي صائب الحدس والنبوءة.. في صدره يجثو تاريخ النقاء.. يرتمي شموخ بحر الله.. أرقدني ـ مذ بدأ يكرر ذلك السؤال لي ـ في عهر القلق وبغي الهم.. ولذا أردفتْ الفارسة بأخت لها: (والعلم بالخفايا قد يؤدي إلى راحة ما للبعض.. بيد أنه لا يؤدي إلى الاستقرار للبعض الآخر!!).. فرأتْ هلوسات قلقي فرصة لتستكين منه:

- سامي.. أحب منك هذا السؤال كثيراً.. لكن لِمَ أنت تكرره لي خاصة كلما رأيتني؟

ملامحه وقفت على خط الذبول والارتخاء.. شفتاه أُطْبِقَتْ على هزِّ المنكبين، وقوافل ابتسامته الواهنة حطتْ على أشفارها.. أجاب:

- أممممممم.. لا أدري!!.. لا أدري!!..

فكره المُترع بمرافئ السكينة، ما اقتلعني من براثن الرمال المتحركة.. أغرق مهري الجموح في فوضى الرعود.. والدور الآن للأيام.



*****

مر الوقت بافتراسي.. الطفل بداخلي ينازل ( لِمَ يكرر هذا السؤال لي.. لِـمَ؟!!).. لم تستقر بوصلتي.. ورَّطتُ صديقي (خالد) في السؤال.. أسْفرتُ له معلقاً أنامل قلبي بأطراف حباله، بيد أنه صرعني بعدم اكتنافه العلة الأكيدة.. بالرغم من أن السؤال أوقره ظهره، إلا أنه صنع له عللاً كثيرة سجدتْ على لسانه، حين قال:

- ربما سيفاجئك بهدية قيمة، لأنك أقرب الرفاق إليه!!.

- ربما لأنك تعديت كثيراً وقت الزواج المتعارف عليه!!.

- ربما يظن بأن الزوجة ستكون قادرة على تغيير واقعك النفسي القلق مع الحياة!!.

- ربما لأن الزوجة قريبة له من البعيد ويهمه أمرها!!.

خمن ذلك وقد أعتق من بين شفتيه تخميناً آخر سرَّحه بمزاح مبالغ:

- أها.. ربما ستموت أنت في ذلك اليوم!!، ستموت!!. قال هذا وهو يردفه بضحكة كبيرة: هاهاهاها.

هذا ما منحني به من مِنَنِ تخميناته، بيد أنه ماهزم شهقات القلق.. لم يكف أكفها عني بتكهناته. بل إن تخمينه الأخير قيدني للخوف المتسامي.. ملأ بالوسواس صدري.. أحاطت هواجسه بقلبي.. وثمة مَنْ أتى خلفي وقلَّبني، فتمتمتُ:

- ربما هذا صحيح، ولذا سامي أخفى عني الحقيقة؟!!.

*****

في ليالي اقترابي إلى جنة الفراشات، صالة التكهنات.. ما وجدتُ دليلاً إلى النوم!.. فقد تأرقتُ بلعنة السؤال.. تأججتُ بوحشية التخمينات.. أُدْميَ جسدي لِـحِدَّةِ رأس النتائج.. الحقيقة عصية.. في غرفتي المجهزة لاستقبال عذرائي، لم تشغلني زواياها المزوقة بتحف وورود الفرح.. رأيتها كئيبة.. تمتد في وحشتي.. أفقها باهت.. وحين تماهى الظلام بالظلام، والتصق السرير بالسرير.. استسلمتُ للوسواس فغدا أكثر خطورة في قوافيَّ.. أصبحت تفعيلاته تغويني:

- هل حقاً سأموت في يوم الزواج؟!!.

- وإذا كان هذا التخمين حقاً، أيفترض أن أكمل الزواج لأشعل في فتاتي نار الفقد؟

- سأوقف هذا الزواج!!.

القلق استغلني كما يسْتغل كل القلوب.. صلب جسدي على مذبحته، قسا وتغذى على أوردته.. انعطف بي إلى منحى خطير زلق.. فارتكب فكري هذه المعصية بحريته وخياله كجزء من مبادئ الاستنتاج، وكأنه قد غُزِيَ بمخدر قتل قدرته على الاختيار الصائب، بيد أني سرعان ما عدتُ بدفتِهَ إلى الجادة:

- لا.. لا.. الموت والحياة بعلم الله، ليس بعلم أحد، ولذا سأكمل مشواري، وليفعل الله مايريد.

*****

رحلتْ أيام الأسبوع هاربة إلى التيه.. مترنحة مابين نكسة خوف وسلطان قلق وما بين تشعشع انشراح وبلوغ نشوة.. حساسية دم بمعنى.. طغيان عاطفة على فكر.. في صالة التخمينات عصراً، للأفواه رائحة نشوى.. لشارعنا الرملي الطويل وبيتنا بأكمله، خضاب من الألوان مريح.. للأجواء الأليفة صخب مبهج.. لكن ما إن أقبلت الساعات الأخيرة من بعد الأفول، حيث يبدأ الليل يمسح الأسماء، وتتسنم الأنصاب الأجساد.. حتى شعرتُ بانقباض في صدري واختلال في شعوري، ما أخرجتْ أبوابي المعتقة علته!!، عاد قلبي إلى خطرات الظنون:

- يا إلهي، لابد وأن نبوءة سامي حقّا وقد حان موعدها؟!!.. هل سأموت؟!!.

هي ذي مرآتي الباطنة، ترمي بي في محارق الموت.. تحريت أجزائي، لم أقع على شيء يقرر بأنني مريض في جسدي، أو هناك مايشي باحتضاري.. فوجهتُ دفة الظنون إلى أقاربي: لابد أن أقاربي قد أصيبوا بسوء، وهناك تكمن النبوءة!.

تفقدتهم جميعاً بتقاطيع الوجوه.. لم أجد تفسيراً لفرط الهاجس!!.. تبرج الكابوس على ملامحي.. كشف الاضطراب سِمَاتي سألني والدي: مابك؟!!. عرّيتُ الأمر له بكلمات مرتبكة.. خلته أقام على خط النار.. بيد أنه ضاجع ضحكاته محاولاً طمأنتي قائلاً:

- لاشيء سيحصل من هذا ياولدي، بإذن الله، وأعتقد أن ما بك الآن ربما لرهبة الساعة الأخيرة للزواج!.. كُنْ مطمئناً.

لكن أنداس غرْسُهُ.. مازلتُ فوق المقصلة المهيبة، والرقص من الرعب!!. بحثتُ عن خالد الذي هذَّبَ أشجار بستاني طيلة الساعات الأولى، فقد بَعُدَ عن لحظات عيني المرفرفة أهدابها في الفنجان المنثور.. لم أحتفِ به، بل لم أحتفِ بالكثير من الشباب والرجال الذين عهدتهم حولي يغسلون ركامي بأجسادهم وأرواحهم، كما خفَّتْ حركة النسوة وخفَّ صخبهن المريح.. افترشني الاضطراب.. جلدني الخفقان، فانسحاب قوي إلى الأسفل داخل نبضي.. نثُّ جبيني.. تقاذفتني الظنون، بدأتْ تُلمِّحُ لي بنـزول المشنقة.. بيد أن القدر لم يمهلني كثيراً في لحظات العبث والهدم، فأموتُ جاهلاً.. كما تنبأ لي خالد.. لم أتنفس الثلج لأطفئ ناراً أشعلها القلق والخوف على خروج روحي.. لم أتنهد راحة لأن السهم لم يصب قلبي بالذات.. بل كالنسوة لطمتُ وجهي المبهوت مصعوقاً، وشققتُ جيبي المضغوط مهتاجاً.. بل زفرتُ مالم تبلغ الثاكلة ملاءمة كيفياتي الحرى.. حين زَفَّتْ إليّ الذاهلات خبراً لجم فم الأرق البربري الفتاك.. خنق ظلامي المفترس، ليحل محلها فاجعة موت (سامي) في حادث سير!!.



1/3/1425هـ





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق