مُضِيٌّ على شطِّ الفتون






مُضِيٌّ على شطِّ الفتون





دائماً أردد في حضوره أو في غيابه: (هذا، كأس تثمل به زوايا الصمت، الآن، وفي كل آن.. وخطواته في عيني وعلى صدر البلد وفي بصيرة الملأ واثقة مطمئنة مثل سهم مسدد بدقة. يرحل بالعقل إلى واحات البريق.. قافلةٌ مِنَ الألوانِ البراقة تحمل إلى واحة من الدهشة..)

ومن هنا، أدمنتُ رؤيته كل حين.. حتى غرقتُ في هالاته المتدفقة بالهدوء، والوقار.. فشعرتُ بلظى إلى شغف فتونه.. فصرتُ أحاول الالتصاق به، أشربُ من رحيقه.. بل أحاول الولوج تحت شرشفه بحمى كل خلية واعية تحملها جمجمتي لأشفي به شيئاً من رغائبي.. كنتُ أتخيل وجودي معه بأنه سيجعلني أنثُّ رذاذاً نقياً عذباً.. ولذا لا أفتأ أنتجع عند بابه.. أرهفُ السمع.. أسترقُ شيئاً مما تمليه عليه حريته.. وأستشعر صوت أوراقه اللامعة حين تتجاذبها أنامله الحافظة، وأتفصد غرابة من طريقة الجذب..

بيد أن هذه المرة، فتحتُ الباب عليه مقياس عيني دون طرق أو استئذان، وكزئبق ينـزلق نظري إليه.. فتترنح في تجلياته.. ترتمس في مكانه المثقل والمضاء بالوعي والمبتهج بكيانه القمري.. أثناء ذلك عقلي غدا مشدوهاً، مجنوناً، فتحرك جسدي وفق قانونيهما.. أَلتصقُ أكثر.. أرقبه جيداً.. فأرى شعاعاً يزاول معه مهنة التحرر من الأشلاء.. يرفع أرتال جمحمته عن فراشه الوثير لمدة ساعات الوقوف الطويلة.. يصارع الظلمة بوميض كالشمس إذا بدا.. أرصد طريقة صعوده المطردة الخافية عني، والتي تكفي لأن أفهم سر تلك الثقة والاطمئنان اللذين ألهباني.. نازلتني رعشة الاقتحام.. لكنني اقتحمتْ.. انتبه إليّ.. قلتُ متلعثماً مرتباً حروفي:

سيدي، أثارني خطوك، فجئت أنشد طريقته.

قال بثغر باسم.. بصوتٍ متزن هادئ، وكأنه لم يجد ما يفاجئه أو يزعجه أو يفسد خلوته:

حسناً، دعني أراك!.

قال هذا تاركاً بياض من يزاول مهنته معه مجتذباً يدي بحنو.. فتحَ الباب كله، فتمرغ عقلي في الجنون، وزورقي مضى على شطِّ الفتون.. بل هاجرتُ في أمد روحي حتى صار للمنتهى جسراً..‏ صار لأروقة الشوق درباً.. حين شاهدت كل قمره الذي أغشى بنوره بصري.. أرهبني الدخول.. عدت للوراء بضع خطوات.. فاجتذبني إلى الداخل.. أغلق الباب.. ردد بابتسام:

لن أتركك تذهب مادمت قد أتيت دون جسد!.

نازلتني ذات الرعشة، قلت بدهشة أخرى:

أيها الوعي الواثق في الوجود، كيف شعرت بأني قد أتيت دون جسدي؟..

لم ينبس، فقط تبسم واحتضنني عمراً طويلاً بكل الدفء.. بكل أنفاسه الطيبة.. امتزجت به روحي، فخَفَّتْ.. فخَفَّتْ أكثر.. استرختْ.. طفتْ فوق بحره اللطيف الهادئ.. عانقتْ النجوم مثقلةً بعناقيد الشهوة.. رويداً، رويداً، حتى استقرتْ عند قاب قوسين أو أدنى.



24 /8/ 1424هـ








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق