الحضن الدافئ يرحل فييتمنا












الحضن الدافئ يرحل فييتمنا



في لحظات تلقي الخبر فقدنا التعبير.. فقدنا الكلمات.. فقدنا الأسلوب.. حيث أن العقل تشربٌ بالذهول، والقلب تزلزل بالصدمة الكبيرة، وتلفع بالتوجس، والجسد صُلب على خشبة الارتعاش.. إذ كيف نفقد من كان يحيطنا بذارعين دافئتين ؟.. طرفة عين يرحل عنا ونحن مازلنا في حاجة ماسة إلى حضنه الحنون؟..



لا اعتراض على القدر، ولكن المنى كبيرة كبيرة، وطمعنا في الإله الرحيم ألا يحرمنا من الأيادي التي تمثله على البسيطة أكبر وأعظم، لاسيما في فقيدنا الغالي.



عزيزنا الإعلامي الكبير وعميد رجال الصحافة والإعلام في الأحساء الأستاذ الراحل/ عبد الله القنبر.. لم يكن فقط أخاً وصديقاً، بل كان أباً ودوداً.. أخذنا إلى جزيرته الآمنة بما تحمله سريرته الشفافة من لطف وبما تضوعت من رحمات.



أنا ابن الأحساء، ولكني أسكن الخبر منذ عقدين من الزمن.. وهذا النأي لم يمنعني من الحظوة بمعرفة القنبر والتواصل معه عبر الخطوط الثقافية المتاحة كما أتواصل وبقية الأصدقاء، لم أجالسه ملمحاً بملمح قط، وأنا المتعطش لرؤيته، غير أني من فلتات الزمن استرقتُ لوجهه نظرة سريعة صافية، إلى جانبها صوره الفتوغرافية التي بقيت تهدينا دائماً ابتسامته الآسرة وملامحه الأبوية الدافئة حملتها إلينا الصحف والمجلات المختلفة.. من هنا وبما أسمع عنه وما أرى من آثاره ومعاملاته الطيبة الجليلة، تشوقت إلى مرآه والاجتماع به، بيد أني لم أحظ بذلك، إلا مرتين جاءتا مصادفة، كانتا في حفلين للزواج، بعد أن ارتقى منصتي الحفلين وألقى كلمتيه الترحيبيتين المختصرتين واختتمهما بشيء من الطرائف التي رسمت على شفاه الحضور ضحكات وبهجة لا تنسى، لفت نظري الجميع هناك يتحلقونه.. يحيونه.. فيعانقهم بشتى أعمارهم بروح خفيفة الدم والظل، ظريفة الكلم، متواضعة حبابة للناس صغيرهم وكبيره، كيف لا وهو الذي يرعى همومهم وقضاياهم وأفكارهم ويوصلها إلى المسئولين عبر السكك الإعلامية المتاحة؟.. فلم يسعفني الظرف في تلك المناسبتين الجلوس إليه والخلوة به غير تبادل التحايا بالأيدي، والفرح بالقبل، والإحساس بالأحضان، والمواعيد المأمولة بالأيادي التي طالما حملتنا عبر الأوراق إلى بعضنا.



نعم، والصحف كانت هي حلقة تواصلنا، بل أمكنة تلاقينا.. مجالسنا.. ديوانياتنا.. مقاهينا الحقيقية.. لاسيما صحيفة اليوم، حيث كنا وإياه من خلال صفحة( كتابات) نتلقى نصوص الأدب بشتى أجناسه، بل عبر صفحة (حوار مفتوح) كنا نتجاذب الحوار والنقاش ونتعرف على ثقافاتنا بكل أنواعها، وعبر الصفحات الأخرى من الصحيفة ذاتها ومن صحائف أخرى كنا وما زلنا إلى قبل ساعات من فقده، نتلقى الأخبار الأخرى المختلفة التي كان يخطها بيمين لا تكل ولا تمل، ويسطرها بعقل واع دقيق، يستقيها من متابعاته ومشاركاته وحضوره الفاعل في شتى الميادين والفعاليات الثقافية، لاسيما الاجتماعية منها.. فاستمر هذا التواصل وانتقل عبر الشبكة العنكبوتية (الإنترنيت) التي أتاحت لنا فرصة التلاقي الافتراضي السريع.. بلى بل وأنا في نأيي عن الأحساء لم يكن لينتزع مني أبوته وينساني فلا يحتويني ولا يتتبع أخباري وآثاري ولا يدفع بي إلى إكمال مسيرة التقدم والعطاء الثقافي بكل مستوياته والأدبي بكل أجناسه، بل على العكس تماماً، ولا أشك في أنه يفعل ذلك مع غيري من أبناء الأحساء، كما لا ريب في أنه يفعل ذلك مع أبناء الوطن ككل.. هو من السباقين والمبادرين والساعين إلى تكثيف ذلك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني، والماسنجر، وكذلك الجوال، وتلقي أخبارنا من هنا وهناك، والتعاون معنا بنشرها في شتى المواقع والمنتديات الإلكترونية إلى جانبها الصحف الورقية الحاضنة للثقافة، وهذا العمل الأخير الذي تمركز أخيراً في الجنبة الإعلامية، أشعرنا بصدق اهتمامه واحتوائه لنا، بل أشعرنا بأنه يحفزنا ويدفعنا إلى المزيد من العطاء والبذل من خلال اهتماماته ومساعيه في إظهارنا وبروزنا وتعريف كل العالم بنا، كأبناء لإنسانيته قبل أن نكون أبناء النخلة الأحسائية الباسقة المعطاءه التي تظهر على استحياء، ولاشك أنه هو أيضاً نخلة أحسائية، ولكن ليست أية نخله؟..



نعم كنا تحت عينه الأبوية الرحيمة باستمرار، فقبل أسبوع تقريباً من رحيله إلى جنات النعيم إن شاء الله تعالى، قد أرسل إليّ ببريد إلكتروني طالبني فيه بصور حديثه لي، لنشرها جنباً إلى جنب مع أخبارنا الثقافية التي يعدها عنا أو تمسنا، فسرعان مالبيت له الطلب، وانتهزتها فرصة سانحة في البريد لأسأله بعض الأسئلة الثقافية، وكان آخر الأسئلة (أما آن لي أن أجلس إليك على طاولة تلتقي فيها ملامحنا حية؟)، ولأني أعلم أنه مشغول بالهم الإعلامي كثيراً، وحريص على حضور المناسبات الثقافية والأدبية والاجتماعية، ويتواصل مع أنشطة وفعاليات المجتمع ويتنقل إلى سوحه المختلفة وتغطيتها إعلامياً، لايفتح البريد إلا متأخراً، ولذا اتخذتُ لمرض الانتظار كبسولة الصبر حتى يجبني فأشفى.. ولكن القدر بنوباته المفاجئة قد زف إليّ الإجابة فزادني وجعاً على وجع!.



ومن هذا كله حق لنا أن نُفجع لفقده، وأن نبكيه يتماً، وأن يبقى علينا الحق الأكبر، حق الولد على والده الحاني المفقود، هو أن يدعو له، ويسأل الله تعالى أن يهبه رضاه وجنته التي لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لروحه الشفافة، ولأياديه البيضاء .



لكن يبقى السؤال الكبير، هو: بعد أن حملنا من كان يحملنا.. بمن نعزي أنفسنا؟.



9/10/1430هـ








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق