ذات العباءة البيضاء



ذات العباءة البيضاء











في الشاطئ الليلي، تأملت : ما أروع الشمس في عين القمر!!.. بل ما أروعها في الليل على سطح البحر!!.. تلمع الحلكة في قلبي .. وكلما رأيت الدخان في الغسق.. لوحت روحي إلى المرفأ الذي ليس له وجود .. مافتئت النجمة تلاحقني وتحسِبُ خطوي تاركة القمر يبكي .. ليس من أحد هناك سوى الأشواق تراودني . إنني أحلم كما تحلم الشمس أن تكون باردة فلا يتهيأ لها .. وأحياناً لم تكن أحلامي كأحلام الليل حينما يريد أن يصبح نهاراً فيكون له ذلك.. إضاءات القمر تخفي الحروف فتكون سجعـاتها وقوافيها مجهولة .. ليست هي حافلة كلٌ يركبها.. بل مركبة خاصة .. حولها حرس خاص .. رؤوس الحروف ليست متساوية تماماً كرؤوس البرسيم.. تخاف اللعب بمفردها في ردهات فكري .. تخاف أن تسبح في ظلام عقلي الدامس .. أحـياناً أنادي طفلي الجميل.. لكنه لم يأتِ بثوبه الزاهي.. فتهرب هي عني.. تتركني عند الشعاع البليد .. ليس لها غطوه ولا نقاب.. لتختفي وراء سراب الليل أو خلف صخرة تبتسم للنور لتكون شبحاً.. وليس النور الكسول نور القمر .. ليس أمامي أنا أيضاً سـوى الجرح الذي لا أراه يعالجني .. فأبقى سقيماً فيه.. وهي تغوص في الرمال البيض ماسكة بخلـدي.. بل كل أحاسيسي.. برود في عينيها لا أرى سوى الظلام الذي يخرج مثلّجاً من بين شفتيها .. تتجاهلني أحياناً .. كبرياؤها يمنعها أن تكون معي .. وفي اللحظة الأخيرة مازالت تلعب مع طفلي العابث في الصناديق القديمة .. فلا ترى إلا المسامير الصدئة تتناثر تحت أقدام الحفاة فتهرب .. ولا أحد يسمع صراخات غريق في رمال سوداء .. ليست للخطوات اللاهبة هدف إلا المجهول .. لأنه من بين الأمواج النائمة على الشاطئ ، والنسيم الذي يحتضر.. أحاول أن أخرج من الحفرة التي سقطت فيها منذ بضع سنين.. فقد تسرب الماء الملوث إليها.. حتى الأعمدة الكهربائية النائمة على الساحل كالحرس.. لا تشكل مصدر إلهام لي.. لا أستنتج منها إلا أنها خلف الشاطئ واقفة تضيء.. الخلايا العاقلة في شبه شلل أو تحت تأثير مخدر.. مما يجعل ذات العباءة البيضاء – في عيني – تختفي كلما أشعلت الأنوار بقوة .. عجباً كيف طبطبت على كتفي ذات مرة قائلة " من أنت؟" ولا أدري كيف جاءت إجابتي " إنني الذي يود أن يمشي على سطح البحر مباشرة.. ويريد أن يتعلق في السماء دون حبل ".. اعتقدت إنني بهذا قد أمسكت بزمامها.. فحاولت أن ألتفت إليها بلهفة وأمسك بها .. فوجدتها قد هربت كعادتها.. فصرخت قائلاً " لا.. لا.. لا تكترثي بما أقول.. ربما كنت أهذي!.. أسمعي.. أين أنت؟!".. فلا جدوى.. أنا أؤمن منذ المولد أن السماوات سبع وهي بالتأكيد في أولها لكنني لم أرها.. والقرية التي تسكنها لها زقاق واحد ويشمل كل بيوتاته.. لا يتوّه.. لذا أحياناً وفي الليل فقط أعرف لون الباب الذي تقطن وراءه.. إنه أبيض اللون.. بياضه ليس كبياض أبواب البيوت الأخرى.. تعتليه شمعة حمراء.. يقف القمر كل ليلة كحارس أعلاه.. لايفتح إلا في أوقات محددة ولأشخاص مخصوصين.. كلنا نجلّهم .. ونؤدي لهم تحية إكبار.. لا أشعر بأنني تائه إلا حينما يتزاحمون حولي.. أصبح غريباً.. أحاول أن أنتمي إليهم.. وهي كلما أخذت ردحاً من الزمن.. خرجت أمامي متلبسة بأثواب جديدة بالكاد أعرف من هي.. كم هي فرحة اللقاء بها؟.. فأحاول الإمساك بها لكنني لم أفلح مرة واحدة.. بيد أنها هذه المرة وكعادتها تأتي فجأة وتقف من ورائي.. جاءت وسألتني:

أنت .. أين تعيش ؟..



فلم ألتفت إليها خشية أن تهرب من جديد.. فاللسعة التي تمكنت من إصبعي علمتني بألا أزج به في جحر العقرب ليلسع مرة أخرى.. فقط استجمعت كل ماتحبه وماترغب إليه لاستمالتها.. فقدمت ذلك كله في قالب إجابتي :



" أنا أعيش في الظلام كالقمر ".. ولأول مرة تواصل الحديث معي وكأنها استحسنت قولي.. فسألتني:

وأين عنوانك ؟

ليس لي عنوان واحد أو محدد .

وكيف أراك .. إذن ؟.. قلت لها مندفعاً في مشيي للأمام :

بعد أن أراك.. لاكما تريني..



وهنا شعرت هي بانتقالي من عالم تراه ميتاً إلى عالم حي .. إنني الآن فقط أصبحت مؤهلاً.. فانطلقت ذبذبات الإحساس في مشاعرها نحوي.. اعترفت بوجودي.. استوقفتني.. وقفت قبالتي.. قالت: هاأنذا لك من الآن كنجمة تآخيك .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق