في المنعطف




في المنعطف



ألا أفهمكِ؟.

خلتكِ تهزي رأسي بإجابة سالبة.. عندما رفعتِهِ مثقلة ككائن بليد.. فارزةً كنز اللحم والجفون!

أراكِ.... أقسِمُ أني أراكِ.. وأتحملُ فهمَ احمرار عينيك المسدلتين.. أتحمل تنزه التجاعيد في الجبين والوجنات.. وأتحمل وزركِ المنهك بنثر إرثكِ المثخن بدجون الألم.. لكن هل نهاية الحياة الخاصة هي نهاية الوجود؟.

بي تتخلصين من ذاكرتكِ حيناً.. وحيناً تهربين منكِ إليكِ.. ربما لرغبتك العيش ضد طبيعتك، لكن أليس الخوف هو الذي يذكرك بأن طبيعتكِ تستند إلى هذا الأمر بالضبط؟.

الآن.. تصيريني وحيداً.. فتَفسدُ فرادة ليلٍ هدوؤه أثير.. تَفسدُ رائحة النسيم العليلة.. تَفسدُ روعة الشاطئ الجميل.. بموجهِ اللامع.. بهديرهِ الشجي.. بشجرهِ الراقص.. تنأي بي عن غربة ألفتها، وشيبٍ استلطفته.. تنزفيني في اللحظة نفسها إلى زمن منهك كمد؟..

لم؟.. لم يا نفسي.. فأرتمي فوق صدرك باكياً.. متشرنقاً في محراب حزن مقيت؟..

أتريني أغفر لكِ؟.. وهل عهدتِني غافراً؟..

نعم.. في سن الغلواء، وريعان المراهقة.. وبلا مراهقة.. تلوذين عنهن كما تلوذين عن الأفاعي.. لستِ التي تحلمين بهن نهاراً وتحتلمي ليلاً.. أو كنتِ تنفردين في زوايا العتمة، فتنثري على المرايا شهقات الاشتهاء.. حدك الأول والآخر، حدُّ طفلٍ ما تجاوزتْ سنينه العشر.. تغيَّبين لذتكِ بين خمائل النخل، واسْجُفْ المعتقد.. غلالات كانت وقتئذٍ تُشعركِ بلون الفل، وبأثر العطر، وتنقل الفراش!!.. وقبل أن تتخلصي من حبلك السري.. حُمِّلتي الأوزار!..

أتذكركِ، وقد قال لكِ طارقاً الحديد حامياً: لقد آن الأوان لأن تحملينها؟.. فرقعتْ صفائحك بعبث الريح قائلة له برفض: لا.. لا.. لستُ أقوى الآن حمل المسئولية.. بل ليست لي رغبة فيها.

فلم يزل متشبثاً بالأمر مُجلِياً ملامح الشروق.. حتى انتفض.. رعَدَ.. فأطلقَ الرمح إلى قلبكِ مباشرة:

إذن.. لستُ أباً لكِ!!..

أتذكركِ.. وقد ساقتكِ عفويته باستسلام ممقوت.. ولم تزلي طفلة لاتعي تركيب أجزاء لعبتها إن هي فككتها اكتشافاً أو عبثاً بيديها.. أو بأيدٍ أخرى.

العودة استحالة، والأيام إلى الخلاص استحالة أخرى!!.. أصبحتْ الجدران والحواجز أكثر ارتفاعاً.. والنجوم أكثر بُعداً وخفوتاً.. وصبركِ مات.. ووُلد محله الجزع!!..

الآن.. هل سترحل اللحظات بسرعة فيما تنفيني إليه؟.. هل ستتحول الموات إلى جنة خضراء؟.. هل تتوقعين بأنكِ بعد أن حاصرتني بدردوركِ، سأحاول سلك الطريق الأكثر خطراً، وبعد أن تتركيني منقاداً إلى الأسفل، وما أن أصير في النهايه.. سيقذفني (الدردور) إلى السطح بالقوة ذاتها التي أمتصتني؟.

لِمَ تهمسين بصوت لامسموع؟.. قولي تلك الـ (ربما) بصوتٍ عالٍ.. دون أن تخفي ما تبعها من احتراق؟.

أعلم بنفادِ منجمِ دُرركِ المؤدي إلى السلام.. فَتَوَلَّدَ من رحمه هروباً.. بل منفى وغربة حقيقيين.. ثم شيباً وتجاعيدَ أخرى!!

أراكِ الآن.. تتعبيني.. تنهكيني.. تفسدين عليّ حتى دهشة النورس الأبيض الليلي في هذا الشاطئ المزين بالأنوار الهادئة.. وهو يقتنص لحظة غفلةِ أو غفوةِ الأسماك فيصطادها كالشهاب.. بل تفسدي عليّ ثمر نظرتي للبُعدِ السحيق، حيث لا حواجز ولا أسوار!!.. وهل أنا سمكة؟.

افتراسٌ.. صمتٌ.. احتراقٌ.. بكااااااء.. وماذا بعد؟

أخال البحر من دموعكِ.. والنسيم غدا حاراً من أنفاسكِ.. والورق اليابس الأصفر المنتثر تحت هذه الأشجار ماسقط إلا للخريف الذي يقبع بداخلكِ.. والليل الأسود ظلاً للسواد المستقر بين ضلوعكِ.. تعلقينني أنت بين فضائين بهذا الحال.. فلا أستيقظ إلا على جدثِ الأوجاع.. دفعة واحدة.. مداد شرايين العالم.. والحاجز مستحيل الاختراق!!

أتذكرك.. الأمر المهول.. صرعك.. كان ومازال غباره الثخين يغلف مساحات رئتيكِ..

شعرتِ ليلة الزفاف بأن الوسادة ألطف مخلوق.. أغريتني لاحتضانها.. خنقتُ فيها شهقات الدنيا.. أخفيتُ بها كلَّ ملامح الفزع.. سكبتُ فيها العصارات البائسة.. رحلة طويلة.. شاقة.. مُنحلةٌ لي!!

ثم سألتي صاحبتي: أحقاً بإصبعه فقط؟.. وكيف؟.. ولم؟

فأجابتك: نعم.. وكنتُ طفلة.. لم تفهم من خبث هذه الحكايا شيئاً.. لم تعِ عبث الأيدي، وفضول من يدفعها.. لكن لا أتذكر كيف؟.. ولا لم؟.. لم أعِ فأهتم.. ولكني الآن سأحمل الهمَِّ والوجع ضعفاً.. وسأمضي به وهو يزداد إلى كل ركن فيَّ.. فيك.. وإن صفعتني الأحذية المزدحمة.. ووطأتْ باطن ظهري.. سأحْمِلك على كتفي كوناً.. غارزة فيكَ خطيئة اللاحياة.. وإن أنهكتنا.. فهل تتحملني؟.

حينئذ وجهتِ إليها سؤالاً: وهل سوف أتحمل؟

فأجابتكِ: هذا قدرك!!.. وحينذاك هو قدري!!

فأبحرتي في التناسي حملتيها شهرياراً.. وغلبكِ النعاس.. لكنكِ لم تنمي!!.. ولم تغفلْ عيناكِ!.. فقد فعلَ الأصبع فعله في نفسِ صاحبتك.. بل فعل فعله الممقوت فيك.. فأذاب بحماقة التعامل وسذاجة الفهم شلالات التجمد عن أكملها.. أعْدَمَ الحرث والنسل.. خلقَ أكوامَ أوديةٍ لن تختفي..

وأعلم ما تستحضرينه الآن.. إنه لقاءُ نَفْسُ صديقي.. حيثُ كان اعترافكِ الذي خبأتِهِ عقدين من السنين المُجْهِدَة.. ذَكَرْتُهُ له.. فكشف معجزة خليطها سر حياتكِ:

مارغبتهن لحظة!!.

ها!!... حالتك غريبة.. لكن لِمَ؟

لا أدري..

لكنهن سيزدرينك إن علمن.

لا تكترث.. كنتُ محتضراً منهن، والآن أنا ميت بهن!.

وقد رُفِعَ الستر المرخى.. كُشِفُ سرُّ حياتكِ يانفسي في لحظة وهن.. ليبقى (سيشواراً) تسرَّحين به الضفائر.. تخيطين على أنينه نهج التعامل وصاحبتي.. بل وكل من شاكلها.. لم تنعسي يوماً.. ولم تميلي بمركبتي هنيهة!!..

أنظر إليك.. مذاك تسيري بجسدي لا أنفاس تحييه.. يسيل بوجل.. يتناقص.. يعد فيها خيباته واحدة تلو الأخرى.. يقوم من فوق صدرٍ.. ويرتمي فوق صدرٍ آخر.. بنسيج دودة غز حمقاء.. بخفةِ ريش لا تعلمُ بمذاهب الريح.. سيطول بها المقام في الشتات.. ولن تعود إلى أمرٍ كان عدماً.. بل ما خلق في محراب السنين الأولى أبداً..

أخالكِ تسأليني: هل هذا قدراً؟

ولكني سأسألك: من الذي يخلق أو يصنع القدر؟؟

الآن.. تغويك هذه البقع الصغيرة الفارغة من الحشائش الخضراء المسبخة الميته.. فلا يغريك الضوء حين يسقط على سطح البحر فيعود ملتمعاً.. ولا يجذبك النسيم والموج حين يصطدمان بالأشياء فتتعالى تقاسيم النغم!!..

تزأري في رَدهاتك.. الصاحبة هي من قسمتكِ أجزاءً كما ترغب.. تشبثتْ في جزءٍ بكفيها.. وفي جزءٍ بقلبها.. فتَُرجِّحُ الكفة الأولى.. بل تغارين منها حيث تَعْرِفُني وتقترب مني أكثر منكٍ.. لكنك تعلمين بأني لا أرغب في سيرها بي.. ذلك السير الذي يشعرني بأني ناقلة ضعيفة، تقودها على طريق متكسرةٍ بلا إحساس.. وإن تعطلت منها قطعة أو وقفت عن العمل.. رفستها بقدميها!!.. تري ذلك في عينيها التي لاينبض فيها الأمل بالشعور وتفهم الضعف.. لكنكِ تتوسلينها:

أرجوك.. كفِّي.. لا أريد لتفاهاتكٍ إفساد ماتبقى من حياتي.. طاقتي محدودة.

لا أسعى إلى تدمير طاقتك برغبتي.

لقد سلمتُ بالأصبع.

ليته سبباً كافياً!.

إذن ماذا ؟

بلاشعور.. أسيرُ معك عكس الاتجاه.. ولن يتغير الحال!!.

ومن هنا.. ومن عدم الرغبة.. تمارسين يانفسي طقس الهروب، تظنين بأن تقنيته ستعتصر السحاب وستترك ندى صافياً.. بل تظنين بأن الطريق الخطرة ليست في كل الظروف هي الأسوأ.. بل هي أحياناً الطريق الوحيدة للخلاص.. هل ستصنعين قدراً؟..

أفهمك يانفسي.. وإن عملتِ على تقويس عظامي.. أو تكسيرها.. أو تفتيتها.. وأرجفتي اللحم الذي يطوقها.. أو مزقتية.. فلن انتشلكِ من فوق سجادتِك.. ولن أشعركِ بهذا المكان.. ولن أذكركِ بأكثر مما ذكرتكِ به لتنزفي الضوء كله.. وتطبقين جفنيّ..

لكني أتضورُ الآن.. في هذا النور الوئيد.. للالتفات إلى تلك القطة التي قُطعتْ إحدى قدميها فتتقاسم ورفيقاتها اللعب والمرح.. بل ألتفتُ إلى تلك السمكة الصغيرة النحيلة التي يحاول البحر بموجه زجها على الشاطئ فتعود إليه!!.

سأهجنُ القدر.. يانفسي!!.

22/3/1428هـ



الغلواء: أول الشباب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق