صدى الأمين الحائـر
بني، أود.. أود.. أود أن أقول لك......
أبتي.. لستُ أنا الذي يصغي لمن زمنه يختلف عن زمني.
ولكن..
لا أعتقد بأننا سوف نتفق.
............؟؟!!
كلُّ الاتجاهات أعاصير غائرة.. مبتلعة، أو رافضة.. جلببتني بنارها والسموم.. أثقلت رأسي كالعادة بغصص الوجع، ونزف الدم.. وكل الاتجاهات الأخرى أضحيتُ أمام ركوبها مندهشاً.. مستفهماً.. حائراً.. هل من هذه، أو من تلك، أخفف وجعي، أو أخيط الجروح؟.. هكذا أنا الآن وفي ذاتي ألف، ألف خنجر!!.
****
زوجتي.. حبيبتي.. هبيني لحظات للبوح كما قد وهبتك، أرجوك.
لابأس.. لابأس.. حالما أنتهي من عمل البيت والأولاد، وإن لم يكن فإلى ماقبل النوم.. أي بعد ساعتين تقريباً.. اتفقنا؟
.....!.
كمشي سلحفاة ضخمة عجوز مريضة، قضيتُ مدة الانتظار، وإن كنتُ قد قضيتها بتأدية غرض من أغراض المنزل الكثيرة.. بل قضيتها كما أقضي مدة تأدية العمل المنْهِك جلّ النهار وإلى ماقبل منتصف الليل بساعتين أو ثلاث تقريباً.. استجمعتُ قواي، فاجتمعتُ بها:
أأستطيع حبيبتي أن أبوح لك الآن بالرغم مما يستولي علي من تعب؟
وهل تعتقد ـ حبيبي ـ أنه باستطاعتي مقاومة النعاس لأستمع إليك وأنصتُ وأفهم، وربما مطلوب أن أبدي رأياً؟
قالت هذا فالتصق جفناها بحدقتيها، ورحلت إلى عالم الحلم.. فبقيتُ كالعادة في الفراش تقلبني أيدي القلق، حتى البزوغ.
****
عزيزي محمد.. أعتقد بأنك الوحيد الذي سيحمل عني همي وحزني..
بالتأكييييد.. تفضل.. فأنا صديقك المخلص.
كالوردة تلقت الماء والضوء فانفرجت باسمة.. وبرغبة متفجرة، بدأتُ:
في الواقع أن هموم هذا الزمن، قد أتعبتني.. و...
ما كدت أقول هذه الجملة، حتى قاطعني بتأوه:
آآآآه.. عزيزي.. كلنا في هذه الزمن متعبون.. وإليك مثالاً: ذات يوم كنتُ...
شق طريقه متخلصاً من أحماله ووضعها فوق حمْلي.. وأنا أستمع إليه بفكر تثقله علامات التعجب والاستفهام، وبقلب امتلأ بمزيد من جمر اللوم، وعويل الدينصورات.. تنفسني برداً عندما أراد زفير الاحتراق، وأطفأني كالشمعة عندما أراد الخلود..
إعصار حياة اليوم ألقى ومازال يلقي بأمواج البحر ثقيلة لاتُحْتَمَلْ.. (أليس محض هراء النحت في الجبال بأصابع ناعمة؟.. أليس تخريفاً الصعود بجسدي إلى السماوات دون سلطان؟.. بل أليس حماقة التوهم بالاستيلاء على عقل ينضحك بعذب مافيه دون ضريبة؟).. همستُ بهذا مع ذاتي، حتى انسدل ستار جفني، في اضطجاع مضطر.. غابت كل الموجودات عن حدقتي، في ارتخاء، وتسليم..
***
من عَـلٍ شاهق، وكأني في صحراء قاحلة، مشمسة، أبعادها كسرابٍ منتثر.. سمعتُ هاتفاً ينادي:
صديقي، أبصر إلي من بُعْدِكَ، فالآن بصرك حديد.
رفعتُ رأسي، أبصرتُ.. في غيهبِ غارٍ حفر في جبال سُحُبيّة قاتمة لاحصر لها.. رأيتُ فَتِيَّة شفافة هناك.. مقطعة بعض أعضائها.. متهدجة بعض عروقها.. مهتزة القوام.. محيَّرةً مميَّعةً المسلك.. أبصرتها.. لها وجه مشعثٌ، مغبر، مكفهر، مجعد، وكأن دماء قانية ثائرة في خلاياه..
قالت بصوت متهدج: هل عرفتني؟
........، لا!
بالطبع لن تعرفني، فأنا لم أكن على صورتي التي عرفتني بها.. أنا من كنتُ رفيقة دربك في أيام خلتْ.. وقد تخليتَ عني في أحلك الظروف، نسيتني.. فالآن تبحث عمن يكون نديمك شفوياً ـ لا تحريرياً ـ يحقق آمالك وطموحاتك من خلاله دوني..
آه.. لقد تذكرتكِ..
أخرجتها بروحي من غارها الحالك.. استنزفتُ وله صدري إليها.. نزلتْ إليّ شوقاً.. احتضنتْ قلبي، عانقتْ رأسي، قبلت يدي:
مرحباً بصديقي ورفيقي الحميم، الغيور المحافظ علي، الفاهم لي، المغامر من أجلي.. ما الذي أبعدك عني، في وقت بدأ فيه إعصار التخبط يتلاعب بي ؟
بادلتها العناق حرفاً بحرف، واستزدتُ منها جملة بجملة، وتنفستُ عبق معناها سطراً بسطر، ولثمت مكنونها مورداً بمورد.. فأجبتُ بعصارة قلب متألم:
ظروفي الأسرية والمالية.. كانت كفيلة بالسيطرة على نفسي وجسدي..
التزمتُ الصمتَ في خجل، فقالتْ بحرقة:
كل أمثالك في ذلك اليوم وحتى اليوم ـ فضلاً عن توجههم للتجارة ـ إن لم يمت بعضهم.. أصبح هذا عذرهم..!
إنها حياة اليوم عزيزتي.. لكن ما الذي جعلك بهذا الشكل المفجع؟
تُركتُ لبعضٍ توجه إليَّ لأهداف بعيدة عن هدفي.. بل تركتُ في يد أناس آخرينٍ، الربكة، التخبط، العشوائية، التسرع، عدم الفهم، السذاجة.. كل ذلك وأكثر يتملكهم نحوي.. فكنتُ وحيدة، بلا سند أو مدافع..
لم أنبس ببنت شفة، فأردفتْ بابتسامة باهتة:
- ألا تذكر لقاءاتنا المبدعة، المدهشة، العجيبة، الآسرة.. وخاصة لمن يتلقاني من بين يديك؟
نعم أتذكرها.. ولقد كانت مغنية، بعيدة عن أناي بماهي أنا دون الآخر.. فحققتُ من خلالك طريقاً للتنفُّسِ والمُتَنَفَّسْ، فضلاً عن أنه حاز رضاك وأسعدك.
نعم.. أيام تكلل فيها امتزاجنا بالجمال، وسلطتْ عليه الأنظار دهشة.. لكن هل سيعود مجدها؟.. وهل مازلتَ على العهد الذي فارقتني عليه؟
ها!
أرجوك.. لا تقل ( لا).. فإنك لن ترى لي أثراً، بل لن تراني بعدها في بلادكم خاصة.
سأغامر من أجلك.. سأجدد العهد.. ( صمتُ، فأكمَلتْ)
وكأنك تقول: ولكن ؟!
نعم، ولكن انسكبي كلّكِ فيَّ من جديد.. لا تكوني عصية.. ليستْ طاقاتي كما تعهدين..
لقد كنتُ في إنائكَ يوماً ما، فبهروبكَ، هربتُ.. لكن سأعيدُ انسكابي فيكَ برغبتكَ لأكمل المسير بك.. فأرجوك ابتعدْ بي عن النمطية والروتين، ودافع عني مقابل سذاجة وعنف وتعنت البعض لإثبات وجودهم.. سأحييك وأنيرك.. سأخفف همومك وأحزانك، هذا إن لم أرحك منها..
لاشك سأبذل قصارى جهدي في ابتكار أنواع جديدة فيك ومنك، أو على الأقل سأسعى وسأحفز إلى تطويرك بما يمكن أن تتواءمي مع عصري بكل أدواتك دون بتر بعضها كما فعل آخرون.. سأسعى إلى أن يكون حبكك، تركيبك أكثر اتساقاً وروعة....
إذن لك ماطلبتْ.
قالت ذلك، فبرقت من بين شفتيها بسمة شمس الصباح، وشع في وجهها قمر المنتصف.. فأردفتْ:
أحقاً جاء اليوم الذي ستتجمد آهة انتظاري الطويلة التي كنتُ لا أدري متى تنتهي؟.
نعم، وستتمردين على كل مصدرٍ للآهات.
قلتُ ذلك مبتسماً، فإذا بها قد أهدتني كتاباً، يحوي قصصاً لكافكا، وتشيكوف وهمنجواي.. وغيرهم.
عندها جفناي انفرجا.. بان في البياض سواد حدقتي.. وجدتُـني منشرح الصدر.. وفجأة رأيت ذراعيّ يهتزان في حالة غريبة.. تتغير أشكالهما، ينبت عليهما ريش مخملي.. أصبحا كجناحي حمام أبيضين، بل أصبح كل جسدي ملتحفاً بالريش، خفيفاً كالعصفور.. وبغرابة، رأيت نفسي تطير.. تحلقُ في الكون بوعي وفهم مدهشين.. وضمير حساس مرهف.. أتقصى وأتلقط المشاهد التي في غاية الأهمية، فأدونها بمحبرة من دمي.. وفي يقيني، سأعيد صياغتها من جديد بوعي، ملآى بالأمل والفرح والطمأنينة.
16 /8/1428هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق