حلم بحجم الضياع




حلم بحجم الضياع







قيض لكوكبٍ شمعي أن يشتعل بجمرة قلبي.. اشتعل فنشر شعاعه تائهاً متموجاً عزفه على أوتاري المرتخية.. بدأ مثلي يقصر بهدوء حين افترش ضوءه الظلمة، وفي هالته بدت لي صورة باهتة.. تطلعتها بألم.. شعرت بأن في داخلي نورساً بعد أن تلا آية عشقه لمرفأ يخلو من أي جسد، كان له ما أراد.. احتضن صدري المحترق طاولة المرفأ الهادئ.. شعرت ببرودته.. انقبضت أجنحتي المنهارة على ذاتي.. فهربتُ إلى شاطئ آخر ليس له جسم.. غصتُ فيه بكل ملكاتي.. شعرتُ بأنني حزتُ على صَدَفَة بها لؤلؤة كبيرة الحجم أخاذة استقطبني بريقها.. ارتاحت أركاني المستسلمة.. تأوهتُ بكل ما أملك من حسرة:

آه.. كيف يمكنني الانتماء إليه، بلا عودة؟.

حينها سمعت زعيقاً أيقظني:

لا.. ابق معي.



أفقت.. جال بصري في الغرفة النائمة.. لم أجد أحداً سوى ظلي المنسكب على متنها يتموج مثلي!.. ذلك الظل الذي لم يقرر حجم ألمي، ولا قياس بالنسبة له، ولا مقارنة.. أردت الرحيل إلى الشاطئ من جديد.. بيد أن ذلك الصوت ردد بنبرة حزينة:

لا.. لايمكنك تركي.

وقفتُ تاركاً الكرسي يتنفس البرودة الواهنة.. جال بصري في أنحاء الغرفة، أيضاً لم أجد جسداً يمكنني رؤيته بالعين.. جاء الصوت مرة أخرى:

أنا روح التراب الذي سجدت عليه سجدة اللقاء الأول.. بالتأكيد تعرفني ؟.

( بلى .. بلى ) قلت هذا دون دهشة، فأكملت: ( ولكن اتركيني أرحل.. أتعلمين لماذا؟)

وعدت بحرارتي إلى مقعدي.. لملمتُ عقلي المرتبك، وغدوتُ أحشد لها لحظات العطاء وأعفرها على وجه كوكب النار، ربما تتضح لها الصورة:

أنا لم أنس أنني كنت أحد القادة الذين تحركوا بجنودهم لنقل الضوء إلى أكثر خلاياك.. حتى فُتِحَتْ لك أثواب العافية، وازداد بريقك، وسلطتْ الأبصار على ملامحك المنيرة، وأخذوك قدوة في إضاءة الأمكنة.

تلبستُ بالصمت القابض، والليل يجسم ظلمته على قلبي، والكوكب ينفث شعاعه في رئتي، والغرفة تحمل النفث كي تختنق بعبرتها معي.. همست إليها بهدوء:

إن من السهل عليّ أن ألبس كفني وأرحل هكذا.. لا أدري لماذا كان ثوابي أن تغفلي عن ذكر طيوفي المبتهلة في لوحتك؟.. تغفلي عن ذكر مجدي المشبوح إليه؟.. ولمن؟.. للآخرين؟؟.

انسدل رأسي على أنيني.. همستُ لنفسي:

هل للبقاء هنا معنى حين ينسكب على التيه والشتات؟.. هل للنوافذ المشرعة معْنى حين تنفتح من الظلمة على الظلمة؟.. سأرحل.. ولن أبالي.

رفعت جمجمتي.. رددتُ قرار الإشعال:

نعم، سأحمل ذاتي إلى صدر النسيان.. لا أريد أن أمشي فيك صبياً تعفره الوجوه الكالحة.. لا أريد أن أعيد شبابي إلى الأدمة.. باحتك مملوءة ببقع باهتة النظر، بيد أنها تتسلق على أكتاف أبنائك واحداً بعد آخر.. تطفئ شيئاً هنا.. تخمد بركاناً هناك، فتقيم على فوهة البركان وعلى أثره ماتلبد من تراث الرؤى البالية وآثار الأجداد السقيمة.. سأغادر ولن أمشي على أرصفتك.. إلا بعد أن تخلعي ثوباً ارتديته عنوة.

رفرفتُ جناحيّ مرة أخرى.. رأيتُ الحلم باتساع الكون.. رأيته يعيد عليّ أنفاسي.. جعلني أمتطي إلى كل مطامحي.. حقق لي شهوة الأيام الفائتة. لم أتثاءب.. لأني حملت جثماني إلى ما قبل مثواي الأخير فرحاً.. أوقدت بجانب الكوكب المشتعل كوكباً آخر.. أفاض عليّ أكثر أمناً وسكينة.. صرخت فيها قائماً:

إليك عني.. ولا تقولي لي: ( ربيتك كنخلة..) لا بل إني تربيت كبرسيم أعلن اصفراره.. ولا تقولي: (أطالبك بحق الاحتضان الثلاثين). فإني سأحاول نسيانها، وقطعاً لن أفي لك بهذا الحق. أتعلمين بأنه كلما أطفأت شمعة على جزء منك، أيقظتني إلى هذه اللحظة؟.. ولذا أخال حقيقتك تقول لي: هذا الفجر اتخذه فرسا؟. لن أبقى فيك ومعك.. أخاف.. أخاف أن تصيبني مخمصة فتخفرني في سجنك..

غاب صوتها.. ربما غرقت في طوفان الموت.. ملأت صدري كربوناً.. لفظت شيئاً من صحتي.. لحظات وهدأت.. انتسبت للحلم، فمجلداتي مافتئت تمازحه لأنه سكن عقلي ورآه بلسماً له.. إنه يزاحمني في كل ضيق.. بل يراودني يثير غريزتي.. وصدري هذا اللاهث نحو النبوءات البيضاء.. لم يرتدع عن وخز مؤخرتي بالإبر فملتُ إليه.. أعلم بأني لا أملك الغطاء الذي يغطي كامل جسدي.. لكن عليه أن يكفي لتغطية جمجمتي.

تجسم الظل في الغرفة.. بل ماثل الحلم البلوري لدي.. أتممت ترتيب حاجاتي ورحلت بعد أن ارتخت أجزائي على طاولة الغرفة.. وأنا أردد بنشوة:

آآآآآآآه.. أيها الحلم.. أكاد أن ألمسك براحي.

2/9/1424هـ





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق