جمرٌ يتنفس النار



جمرٌ يتنفس النار







(آي..) أطلقتها متبرما بينما سبابتي كادت توسِّع فجوة أذنيّ، وتقطع جدرانها الداخلية.



وضعت هاتفي (الموبايل) المحمول جانباً، وتابعت متمتماً:

تباً لهذه الأجهزة.. ستفقدني أذني.. بجانب أجهزة الحاسب هذه التي ستفقدني عيني أيضاً..



أسلمت رأسي لكفيّ أثناء جلوسي على كرسيي الدوار وراء طاولة مكتبي.. ضغطته بقوة ضغط قشرة الأرض لنواتها، ومجمل الحرارة تكومت في جمجمتي.. شَعَرت بأن قلبي غيّر موقعه إلى رأسي.. فتحت فاهي إحساساً مني بأن أنفي لا يستوعب كمية الهواء التي تتطلبها رئـتيّ.. ضغطت أكثـر (آآآآه..).. أغمضت عينيّ وازدردت ريقي . وإضافة إلى المناقشات العالية للموظفين الجالسين وراء طاولتيهما معي في الغرفة.. أصدر جهاز الفاكس صوتاً متكرراً مرتفعاً منبئاً بوصول رسالة ما.. أولجت إبهاميّ في أذني عقبتهما بشهيق ملأ رئتيّ لأزفر على دفعات متوالية مرتعشة مردداً ( ياااااااارب..).. وأثناء تجاذب أحد الموظفين الحديث العالي مع مدير القسم وهما في مكانيهما.. جاء أحد الموظفين الذي يعمل في الغرفة الأخرى المجاورة ليترك آلة نسخ الأوراق تعمل طويلاً، فامتلأ المكان ضجيجاً أكثر وأكثر، فضلاً عن أن البودرة السوداء التي تعمل بها تلك الآلة فاضت رائحتها بنحو لم أقاومه، فأطلقت لصدري العنان ليسعل سعلات متوالية شديدة، ثم صرخت مهتاجاً في وجه الموظف:



يا أخي.. يا أخي أرجوك.. أتوسل إليك.. استعمل آلة النسخ الموجودة لديكم بدلاً من تخزينها هكذا.. رحمة بنا.. ألا ترى أن الإزعاج والرائحة هنا في هذا المستودع، أقصد هذه الغرفة - في غاية غليانها؟.. الفاكس.. آلة التصوير.. الموظفون.. الحاسبات الآلية التي تتسنم جميع مكاتبنا.. آلتي الطابعة لتلك الأجهزة.. مروحة الهواء الواقفة خلفي.. الهواتف المتنقلة والثابتة التي لا تتوقف من رنينها، فضلاً عن صوت التكييف وكثرة المصابيح الكهربائية المعلقة.. و.. و..

سكتُ ملتقطاً نفسي، بينما لم ينبس الموظف ببنت شفة.. ولم يحرك ساكناً.. فقط بقي واضعاً - أثناء وقوفه - كفاً على كف يوزع نظراته عليّ وعلى أولئك الموظفين الذين حاولا إشغال نفسيهما عنا، وقبالة الجميع أكملت واقفاً:



لِمَ أفواه الكل هنا مغلقة.. أيعجبكم هذا الوضع الممقوت؟.. غرفة 4×6 أمتار لا يوجد لها متنفسٌ لكثرة الأجهزة والرفوف الخشبية والكراسي والطاولات، وعدم وجود نوافذ مفتوحة على الهواء الخارجي.. فضلاً عن هذه الرائحة العفنة السامة الخانقة المنبعثة من كل شيء هاهنا ومن أفواه بعضكم الشبيهة بمداخن أكواخ الغابات؟.. لِمَ أنتم صامتون؟.. لِمً لا تتحركون؟.. أيجب أن نصبر حتى الموت في هذا القبو؟.. نعم ، قبو مقارنة بغرفة مكتب ذلك المدير الذي لا يألو جهدا في انتقاصنا بمناسبة ودون مناسبة وحينما لا يرى منا الإبداع والتجديد؟.. وأي إبداع وتجديد داخل زنزانة مهملة أو مستودع صغير لدى تاجر كبير؟!!!!!!...

.... .



الجميع يصمت حين أوالي صراخي ونقدي اللاذع والساخر أحياناً.. ربما اعتادوا ذلك مني.. لذا فهم ينعتونني بالجرأة والتهور وعدم الخوف على نفسي وعلى ضياع لقمة عيشي.. يصمتون.. حتى أخرج من المكتب كعادتي لأتجول في المبنى بعض الوقت وأعود هادئاً..



وأثناء تجوالي في المبنى ذي العشرة أدوار - الذي يخيّل إليّ ترتيبه وكأنه مشفى حكومي كبير عام متعدد الأقسام والغرف المكتظة بالأسرّة والأجهزة والمرضى وروائحهم - وقفت بالقرب من الزجاج الذي لا يسمح بدخول أو خروج الهواء، والذي اكتسب سخونته من حرارة الشمس الصيفية.. ألصقت نصفي العلوي به فارشاً كفيّ وأصابعي عليه أتزود من تلك الحرارة ما يعينني على إجلاء برودة أطرافي التي اكتسبتها من تكييف المبنى المركزي القطبي.. وقفت أفك صلابة ويبس مفاصلي، وأهدئ إنهاك فقرات ظهري.. وقلبي له قرع كالطبول.. وأعصابي خرقة بالية.. ملأت صدري من هواء المبنى الكاتم.. تمتمت:



كم أتمنى أن أترك هذا العمل؟ ..



تشنجاتي أكسبتني ملامح ورقة خريفية يابسة. ومن خلال الزجاج مسحت بنظري ما يطل عليه المبنى من السماء وأفقها، والأرض وأتساعها، وباقي المدينة وشوارعها وحدائقها المتعددة والمتنوعة.. فلفت نظري في المساحة الخضراء القريبة من المبنى، بستاني يعمل بجد ونشاط.. يقلم الأشجار بطريقة فنية، ويعمل أشكالاً رائعة فيها.. فضلاً عن تنسيقه الزهور وسقيها.. تنهمت بقوة احتمالي.. فتمتمت:



لابد أن هذا البستاني الذي يعمل كل يوم بهذه المهنة، سعيد بعمله هناك !..



استندت الزجاج بظهري.. ربطت ذراعيّ على صدري.. جابت عيناي داخل المبنى.. فأكملت :

وكيف لا .. وهو كعصفور حر طليق مابين الخضرة والماء وفي الاتساع والهواء النقي العطر ؟..



اعتدلت وقفتي.. قلت: ( سأذهب إليه بعض الوقت ..).. وفي خارج المبنى تمطيت كمن يستيقظ من نومه مستنشقاً الهواء النقي العطر بقوة، فداعب رئتي المصطبغتين بالروائح السوداء.. مشيت عدة خطوات ناحية البستاني، تحت أشعة الشمس الحارة.. فوق العشب الأخضر الطري المتبرعم المفترش الأرض الذي يغري قدمي وكل عضلات جسدي المتيبسة، وأصابعي تلامس بعض الزهور والسياج الشجري بحنو فتمنحها دفئاً خاصاً أجلت رتابة الضغط المستمر على تلك الأزرار القاسية.. اقتربت منه.. كان البستاني قد جلس في ظل شجرة على حجر يمارس طقسه بإزالة ما وشح شعره الأشعث ووجهه المحمر وملابسه الرثة من العرق والغبار.. يجرجر أنفاسه.. يبصق أتعابه وأثقاله.. يهدئ ثورة التشققات الغائرة في باطن قدميه وخربشتهما بالأشواك المتطفلة.. اقتربت منه مبتسماً مسلماً.. لم ألتفت للحكايات المرسومة على محياه التي تختصرها تجاعيده العميقة، وترويها سنين عمره الطويلة.. فأجاب التحية، وبادرني ملوحاً بيده:



إي ي ي يه .. يحق لكم أصحاب الوظائف الإدارية.. كم أنتم مرتاحون؟.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق