صراع القِوى

صراع القِوى



لم أقدر على رؤية أي محسوس.. لكن كان باستطاعتي حينئذ جلد الذاكرة ووضع الذات تحت شفرة المقصلة، وكان بإمكاني التخلي عن ذلك!.. كما كان باستطاعتي سياقة أجنحة الخيال إلى أبعد نقطة فيه.. تخيلتُ كل شيء.. بل أي شيء حتى الأشباح فضلاً عن ملِكاتِ الجمال، وخيالات أخرى لا معقولة ولا متوازنة ولا علاقة بينها. آن ذاك تخيلتُ لونا أبيض باهتا يتموج تائهاً يبحث عن استقرار في لا أمكنة ولا حدود مرئية.. بل كأنه لون مائي يغالبه السواد حيناً ما فيأخذ لونه تارة، وتارة أخرى يبقى على حاله يتشكل كسحاب هلامي بل كدخان واهن في موجة الرياح.. كان يمكن أن أوقد النور في ذاك السَحَر لأبدد كل شيء بدا لي في عتمة غرفتي، بيد أني لم أفعل.. إرادتي الجزئية الخاصة بي قررت ذلك.. لم تمنعني أية إرادة مع أن قوتها تفوق جل إرادتي وقدرتي.. بل وفوقها، لأن مشيئة صاحبها تقرر سير الأمور حسب معطياتها ولا إجبار، بل لا ضرورة للمعجز هنا..

أردتُ النوم عوضاً عن كل شيء.. رددتُ كلمة (ارتخي يا.. ) لكل عضو مني.. فاستجابت كل الأعضاء بالارتخاء.. فإذا كلّي كوردة مقطوفة في جو حار.. ذبلتُ على الفراش.. كان يمكن في تلك الأثناء أن أغرق في النوم كالعادة وأريح جسدي وفكري لأزاول في يوم الغد عملي بنشاط، لولا أني أردتُ الغرق تفكيراً فيما حدث من عمل أخرق قبل أيام، وكان يمكن أن أترك هذا، لكنني اضطررتُ للتفكير فيه الآن، فشددتُ أعصابي وضغطتُ فكيّ ببعضهما، وغادرتُ حيث هو برغبتي لا حيث أنا..
أرواح ذابلة ذات وجوه مكفهرة حد المقت تتزاحم تتدافع في السوق ضاجة فيه.. الجو الليلي حار رطب غاية الطفح.. خانق يغوي الموت على الحضور.. زوجي وبناتي يتسوقن بتبرم وضيق.. أرافقهن على مضض واضطراب.. أعالج نفسي الضجرة بالتأفف وضغط رأسي وسد أنفي.. بل بكلمات الشتم تارة، وبكلمات الحوقلة تارة أخرى.. ابتعن ما احتجن إليه من الملابس.. دفعتُ القيمة بفئة مالية كبيرة.. انتظرتُ بضع دقائق ليعطيني البائع المتبقي.. أعطانيه، ودون أي اعتناء بمقداره أودعته جيبي بسرعة، وقفلنا إلى البيت نمقت الازدحام ونتائج الجو المقيتة.. ذهب العناء بعد أن تمتعنا بفسحة المنزل وبجوه المبرَّد.. حَسَبْنا قيمة المشتريات، وعددتُ المبلغ المتبقي في جيبي.. فجأة.. وجدت المال لم ينقص شيئاً!!.. بل كان زائداً ومضاعفاً.. دُهشت ودُهشن بناتي وزوجي.. لم نعزو ذلك إلى الله الذي يعوض المحرومين، لأن الله لم يحرمنا من المال الكافي لشراء ما نحتاجه في هذا العيد.. تفطنا جيداً.. اكتشفنا بأن المال يعود إلى بائع الملابس الأخير، فقررتُ أن أعيده إليه والله في يقيني.
هذا الأمر الذي قض مضجعي تلك الليلة، وجعلني أعيش سَحَراً مليئاً بالخيالات والتكهنات وأشكل صوراً لا محسوسة.. استطعت أن أحيك قصصاً لها نهايات مخيفة مرة، ونهايات أكثر تفاؤلاً مرة أخرى، بل وساخرة ومضحكة.. وكان يمكن ألا أشغل تفكيري وأن أعيد المال قبل أن أخلد إلى النوم، لأني في الوقت الذي قررت إعادته شعرتُ بأن إرادتي تلك هي الإرادة المطلوبة والمرضي عنها عند صاحب الإرادة الأقوى والتي سوف أثاب عليها بجزالة.. بيد أن صِداماً قوياً داخليا حفزني على أن أتمتم لنفسي:
ليكن ذلك غداً، مبكراً، وأبدي لذلك الرجل اعتذاري عن التأخير.

ولذا رددتُ مرة أخرى كلمة (ارتخي يا.. ) لكل عضو مني.. فاستجاب كل الأعضاء بالارتخاء.. فإذا كلّي كوردة مقطوفة في جو حار.. ذَبُلَ على الفراش.. كان من الممكن أن أغرق في النوم أيضاً، بيد أن ذات الأمر غالبني، بقوة خارجية، اضطرتني لأن أشد أعصابي وأضغط فكيّ ببعضهما مجدداً.. وأتمتم مرة أخرى بشكل مستغرب:
لكن أنا في غاية الحاجة إلى هذا المال الآن.. ربما لايضر لو أجَّلْتُ إعادته بعد يومين؟.. لاأعتقد بأن البائع في حاجته مؤقتا.
قلت هذا وقفاي إزاء السقف. اقتنعتُ بهذه النتيجة، وإن كانت هي مشيئة جزئية قد خالفت مشيئة كلية.. غير أن القوة الخارجية جعلتني لا أهتم فهناك ما يمكن أن يجعلني أن أسدد قيمة هذه المخالفة بلا تبعات.. دقائق معدودة، وإذا بالنوم قد سلبني كل حواسي محاولة لانتمائي إلى عالم آخر أكثر بعداً عن المادة والحس..
اليوم وبعد ثلاثة أيام.. ذهبت إلى السوق مرة أخرى إلى ذات المحل بالتحديد.. بتثاقل وصراع واهن يعاند صراعاً أقوى.. رأيت فيه بائعاً آخر.. سألته عن البائع المنشود، فسألني بغضب: ماذا تريد منه؟. بتلعثم أجبت: أريده لأمرٍ خاص؟. ففاجأني بقوله:
هل أنت صديقه؟.. إنه بائعٌ غير سوي... كان صاحب المحل رحيماً به حين اكتفى بطرده بالأمس بعد أن اكتشف أنه اختلس من مال المبيع.
قال ذلك، فانطبقت نواجذي بقسوة على شفتي، وشتمتُ تلك الإرادة الجزئية الخرقاء التي خالفت الإرادة الكلية، وأقسمتُ بألا أعود لمثل هذه المخالفة!.

5/5/1425هـ




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق