أثداء .. لا تطفئ العطش


أثداء .. لا تطفئ العطش


حَدُّ ذكائي غرق. حَدُّ انبهاري جمود. حَدُّ شوقي اضطراب. حَدُّ انتظاري تخثر، سكون، احتضار، موت...
ثلاثمئة وستون نبضة للساعة ترحل على مواويل العذارى.. لم تزل صفحة المنتدى الإلكتروني باردة.. برود مُلاّكها ومُرتاديها.. جافة، جفاف شفتي.. تُشْهِقُ، شهقة وجدي.. تئدُ، وأد أملي.. أقومُ بتحديثها، إحيائها، فأحيي لهفتي.. لا أجدُ إضافة، فأعود كالأرض التي يعلوها السحاب، فيغادرها لتبقى كالربع الخالي وصحراء النفود.
بلا يأس، أحييتها بعد أربع دقائق.. بل بعد ثلاث.. واثنتين.. وواحدة.. أحييتها بالذبذبات الجارية في أسلاكي.. أحييتها باللمسات التي تأسر إحساسي.. أحييتها بازدراد لوعتي.. فخيبة تصطف لمعسكر خيباتي.. ما رتقت حصّتها في فؤادي مشتهاها.. أكمل سورة المدى والقفار.. أشهق:
يالهذا الموت!.
قبل أن أفرغ من البعث، من تركيب خَلْقي على أرض المجاعة والاستعطاف، أغلقت رسالة صديقي الناقد التي أرسلها لي في جوالي (الموبايل):
(سيدي.. هذه حروفك تضمخ بالأريج مساءاتي، وتملأ جنبات مكاني ضوءاً وألقاً وبهجة.. عشت معها بكل مشاعري، وما أشبهني بالذي يهذي في قصتك .....).
لم يكن الوهج الأول أستقبله بالانتشاء، ولا المائة.. لم تُحْتَكَر عني.. بل لم يجدِ احَتَكارَها.. ما كانت سمائي يوماً تحتكر النافذين منها.. سلطاني قد أمد سلطانهم.. نعم، يحْتَكِرني القلق مُذْ أن وضعتُ أول بوح لخلية من دماغي على طاولة التشريح.. بعد أن عصرتها في السكون بهدوء حتى الموت لتحيا خلايا أخرى على إثرها.. لكنني لم أتوتر من المبضع الذي يُشَرِّحُه ليفضح أمري، وأُعْدَم.. بل هو قلق آخر يمشي بي انتحاراً فانتحار..
في اللحظة التي انْبَعَثَتْ بضوئي الأربعيني.. ألواني تغادر إلى ألواني.. رجل إلى طفل.. أحاول بامتزاجها سد مجاعتي، وهاجس يتملكني حد الشهوة وأنا أُقَلِّبُ الفراغ.. أهيم في وريدي بحثا عن الأمنيات القتيلة والذكريات الدفينة.
أبي.. أبي.. لقد نجحت.. نجحت.. سوف أنتقل للصف الرابع..
مبروك.
قالها بتلاقي الأقطاب الثلجية.. ثلج هنا.. حِمَمٌ هناك.. لاشيء آخر يملأ قِدْري.. تصرخ معدته التي تخرج أمعاءه إلى الأمام بما يجلب السخرية والضحك.. ينفعلْ:
وأنتِ.. هأأأأى.. جِيْبي الغدا بسرعة؟.
مصباح الخوف تَجَدَّلَ من الأشواك والرياء والتخاذل والضعف.. فالتقى الصراخ بالصراخ:
حاضر..
قالتها ممطوطة، فأكملتْ صراخها للشوارع المفروشة في الصمت المقبور في العتمة:
سبحان الله!!.. ما مرّتْ ساعتان على تناولك الفطور.
يموتُ خَطْوُ المشهدِ في الوقت، ويَحيا في خِصْبِ أراضيّ.. أنحتُ له تمثالاً.. يَشعُّ أملاً آخر من بين السحاب:
أمي.. لقد نجحت.
أقولها بكل القلق.. فتهز رأسها، وأسمع الحروف التي تَبَخَّرَ مفعولها قبل ماء الطبخ ( مبروك).
أُقَلِّبُ إنائي.. أبْحثُ فيه بذاكرتي الحالمة، لم يزل فارغاً.. حتى القلوب الأخرى التي خرجتْ من وراء الحجب الثلاث التي اكتنفتني قبل الميلاد.. لم تلفظ سوى (مبروك).. يااااه.. يالهذه المبروك بمفردها!!.. دائماً تقرع حنيني بالسوط قائلة: لا للصدر.
أقوم ببعث الحياة في ذات الصفحة الإلكترونية، فأبعثُ ـ معها ـ هيامي للخبز الأبيض الصافي من الاحتراق.. تتلكأ الصفحة في توهجها.. يتعرى النصف الأول، كتعري نصف امرأة تشاغب المنع.. يتعرى، وولع منبهر مراهق حولها يترجاها كشف النصف الآخر.. الآخر الذي يقتل أنفاسي.. انتظار وجهه يهدد أظافري بالإعدام.. يُدْمي شفتي بالعظام.. يشهِّقُ كل حالات حياتي.. أعيد إحياء الصفحة من جديد مقابل اهترائي.. فأراها قد تعرت تماماً، كفتاةٍ ذاتَ جمالٍٍ فائقٍ عارضة أنوثتها في مُجَمَّعٍ رجالي.. بيد أني أجدها لم تلقَ حظاً كحظِ فتاةٍ أخرى ترتدي سواد الحشمة والبهاء.. أقرأ الحظ:
جميل.
رائع.
مبدع.
وأنا أبحث عن العالم.. فلا يملأ خزان صدري بالقبلات....
حالماً.. ظامئاً.. أرى شمس الشتاء لا تشعر بثقل الثلج.. لا تمنح الدفء حتى أخرج أمامها عارياً بلا خجل، أو أرجف بابها بقوة إلى أن تفتح بمضض، ثم أدخل مابين أو إلى ما وراء شفتيها وثدييها وفخذيها.. وما أصعب ذلك؟!!.
أصبحتُ أقرب من الاحتراق.. تَرَدَّدَتُ تحتَ منْبَتِ شَعْري.. انكَمَشَ الزمان بقبضة كفّي سؤال ليس له جواب:
هل أنا جائع إلى هذا الحد؟. هل أعاني بالفعل من مجاعة؟. أم في أشد الاحتياج إلى آخر؟..
فتحتُ صندوق رسائل الجوال الواردة مرة أخرى.. أقرأ رسالة مشتعلة لصديق:
( حبك عيدي، أنتظر إقبالك، كانتظاري لفتاة قررت أن تصبح عاهرة.. آه.. نَسِيَتْ جلب ثدييها).
ورسالة أخرى لصديق آخر:
( ثمة حراكٌ للزمن يختمر في توقي إليك، يشبه كثيراً شفتيك حين تبوح....)

أرمي بالجوال على نكبتي.. ينتفض العالم بين كفيّ.. أعود للفتاة التي أعتكفُ عندها وأنقطعُ إليها.. الفتاة التي اجتذبتْ حتى الخالقين والأنبياء والصالحين والقديسين والرهبان والأغنياء والمعدمين.. أفتحُ صفحةَ المنتدى الإلكتروني، ومابين الذبول والذبول.. مابين شمسي والشموع.. تطبطب على كتفي بهدوء كفاً طالماً أسقطت ثلج آخر كوكب في مجرتي.. ليرتعش الأفق من دهشتي، ويعيش أعلى حافة للجنون.. همستْ لي بينما تضمني كفاها وعيناها وعنقها:
لأجلك، حبيبي، كتبتُ عمري قصيدة حبٍ تعيش كل يوم بين يديك.
أتنفس هذا الجنون من زوجتي، من أبنائي، من كل الأصدقاء.. نتبادل العاطفة بالعاطفة.. تغبطنا السماء السابعة ويباركنا الإله.
تودعني وجوههم لحظات.. فأعود بلهاث مفجع.. أقلب صفحات المنتديات الإلكترونية.. الماسنجر.. رسائل الإيميل والجوال.. أبحـث في موقع قوقل (Google).. بل أبحث في صناديق العالم كله بتقنياته المرئية والصوتية، بلحمه، وشحمه، وعظمه، ووجدانه، ومشاعره، وضميره.. حَدَّ الانتظار.. حَدَّ الجمود.. حَدَّ الغرق.. حَدَّ الاضطراب.. في تخثر وسكون واحتضار وموت.....

24/12/1424هـ




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق