للأمس رائحة حمقاء



للأمس رائحة حمقاء



وجه أشبه بأرض الحقل التي تلعب عليها الجرافة بحماقة.. مفاجأة نارية كسته بلون الدم.. دهشة قاسية فتحت عينيه باتساعه.. صرختْ فيه نتوءات عميقة، انسابتْ بينها طرقاً هوجاء.. وبه أنف مهمل احتلبته سنينه الخمسون، وبئر فاغرة تبتلع مسيلها، ينبعثُ من جوفها صوت وهاج مرتجفة آلته:



- يا إلهي.. لا.. لا.. لا يمكن!!!.

- يا ربي كيف ترضى لأن يحصل هذا الفعل الأحمق السفيه؟.. كيف ترضى؟؟!!



وصوت جنـزير الجرافة السائبة لم يفتأ.. تتراقص خطوط الوجه بانتشاء، بينما يصرخ بصوت تفوح منه رائحة الاحتراق:

- كُفْ.. كُفْ.. كُفْ يابني... ليس هو ذا الوفاء.



وتزداد لعبة الجرافة.. ترتعد خطوط الوجه.. إنه يشعر شعوراً أكيداً بأن ابنه ما قام بذلك إلا عن قناعة ذاتية.. إنه اعتاد لأن يقوم بتحليل أفعاله ويستشعر أحاسيسه.. غابت عنه كل صورة ببطء رغم الأصوات، لينتمي إلى ذاكرته التي اشتعلت في تلك الأثناء:



لقد كان في يوم ما.. أراق ماء وجهه تحت قدمي جاره في الحقل.. توسل إليه كثيراً بأن يبتاع منه فسيل نخلة لديه.. فسيل أشار إليه بذاته لا غيره.. لقد ألهب شوق قلبه، وأسال لعابه ثمار أمه.



فيرفض جاره بشكل مستديم، إلا أنه وافق بعد إغراء وبعد مسيرة زمن اجتر فيه التوسل إليه.. غرس الفسيل في أفضل تربة وفي مكان خاص من حقله.. بذل له جل عنايته بعض كل ليل ومعظم كل نهار.. كان ابنه في ريعان الصَبا.. يأتي به إلى الحقل.. يطلب منه أن يحمل الماء ليسقيه معه، بعد أن يعلمه قيمته.. فيسقيه..



صوت الجرافة الذي يزلزل المكان، أيقظه من ذاكرته.. ورائحة أفعاله العتيقة تفوح، لكنها لا تأتي بشيء.. يرتعد الوجه، يعاود التوسل إلى ابنه:

- لا يابني.. كف عن هذا.. أرجووووك....



يموت التوسل على جدران خيباته.. لايكترث الابن لرعشاته.. يبعده - بضحكة تملأ شدقيه، وبقسوة - عن ساحة عبث ولعب الجرافة.. مرة أخرى رنّتْ الأحداث في ذاكرته..



كبرت الفسيلة التي ثمل لعابه على لذة ثمارها.. غدت نخلة ببطء على عكس ما غدا ابنه أستاذاً بحجم الكون.. أستاذاً بحجم عقله.. ترنّم بها أمام الملأ وتباهى.. أخذت من حلمه النصيب الأوفى.. كبرت، فأطعم منها نفسه وعائلته ردحاً من الزمن..



وقبل أيام قلائل، جاء إليه ابنه، قائلاً:

- أبي.. الآن وقد شعرتُ بأنك بحاجة إلى من يساعدك في الحقل ويحمل عنك أثقاله.. سأحمل عن كاهلك كل أتعابه.. سأحاول أن أنسيك الماضي.. سأحاول أن أكون مكانك.. فقط بشرط أن تبيعه إلي، لأشعر بقيمته أكثر.



حينئذ الفرحة أعدمته حاسة قراءة الإحساس عنده.. تكهن صولة ابنه في الحقل أكثر إغراء.. خالجه شعور بضمان استمرار حماية الحقل من بعده.. فأبدى موافقته، فباعه له.



مجدداً، أيقظه صوت الجرافة من ذاكرته.. أيقظه على معركة لم يتهيأ لها.. لم يجدولها في حياة أجزائه.. فهاهو يجدها أكثر عصياناً، وينـزف عليها دماء جراحه المتعرية.. لقد كشف جوهر جموح خيل ابنه وكثرة صهيله.. ابنه الذي أختار لهذا الحقل - بعدما تملك زمامه - الموت وطناً، وسوست له نفسه بأن يفسد فيه.. سأله في استنكار:



- لماذا يابني، فعلت هذا.. لماذا؟!!!

- .....!



لم يجبه، فقط رشقه بنظرة مندهشة، وشكّل له وجهاً كأرض مغبرة جف بللها أياماً.. تحسس سطح ظهره.. وأغمض عينيه مستسلماً لذاكرته..



كان في ريعان صباه، يأتي به أبوه عنوة إلى الحقل.. يطلب منه أن يحمل الماء ليسقي النخلة، فيرفض.. يعلّمه قيمتها.. يقتنع بذلك لكنه يرفض أيضاً.. لم يجد حيلة أباه، فيجبره بالسوط.. فيسقيها بخوف وذعر..



نبهه صوت الجرافة المزعج.. بل نبهه صاحب الوجهة الذي أشبه بأرض الحقل التي تلعب عليها الجرافة بحماقة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق