في قتلي حياتي




في قتلي حياتي





شتات؟

لا!.

عشرون عاماً من الانسكاب في مساقط رؤوس الآخرين.. حَلَتْ لي منذ بدأت الخطو..

لِمَ؟!‍‍‍‍‍

.... (لا أجيب)

فقط أرى البياض فيها يجدِّف إليّ، فأسعد.. يُنَفِسُ الخِصْب مني مدركاً أن في اخضراري نصوعه، فأنتشي.. كان أبي يجيب المندهشين الفضوليين من مسقطي: لا بأس، حينما لا أجد ثوبه متسخاً.

لا يكترثُ إن هربوا وسماواتهم المعتمة مطبقة.. يفعل مثلي تماماً، وهو فخور.

عشرون عاماً من الرسم خارج الإطار.. أرى لوحة مسقط رأسي مائية، فلا أرسم عليها مع أني أمتلك المقدرة!‍..

خارجاً، أرسم على الهواء فيُحفرْ.. يُنادى الخلق إلى مبعثِ الانشدادِ والاندهاش.. تُعتلى صهوةَ التباهي.. يُبَشَّرُ منْ أخذه الاضطرار عن مسرحِ الاحتفاءِ.. استحال عليهم بيع لوحاتي.. تلك المساقط تعلم مِنْ أين تؤكل الكتف؟..

لِمَ لا تأتيهم هنا يابني؟‍‍

..... (لا أجيب)

غير أن للحرية طعماً يَلْتَحِفُ بها اللسانُ كله.. لانسكابي بعيداً شهوةً لا تُحَدْ.. للأوديةِ المشرئبةِ الأعناقِ أنا ثديٌ معلقٌ به وَلهُ الاكتشاف.. بل إن عشبي ناكف صدورها فتعرتْ.. في المساقط كلها، لا صدى للهفوة والغرف من الوهاد.

انتهتْ أيام الشتات.

لا شتات يا أبي.. كنتُ متيقناً بأنك الوحيد الذي يفهمني.

أفهمك.. ولكن ليس لهذا الأمر قيادة عليك.

تتصوّر؟.

نعم.

لا أريده، لأنه رغماً عني.. وإن قُتِلْتُ، فأنتَ تتحمل دمي.

لستُ موافقاً على التحمل، ولكنك ستفعل.

وقد فعلتُ.. إذ ليس للتبرؤ في وعيٍ كان في العتبة الأولى أن يراوغ أو يمتنع.. بُنيَ الفيصلُ على كاهلي.. وجاءتْ ابنة عمي العزيز تراودني عن نفسي، فلم أستعصم.. شغفتني حباً.. عميلةٌ واعيةٌ جميلةٌ جداً أُرسلتْ إليّ بذكاءِ مَسْقَطي فكنتُ لها ولَـهٌ.. استباحتني بطهارتها، بعد أن قتلتْ فيّ كل مساقط الآخرين.. كنتُ حينئذ مراهقاً.. لكنني اكتشفتُ الأمر..

خدعوك يا أبي.

..... ( لم يُجِبْ).

جاء دور إلقاف فمه حجراً، فلم ألمه.. كان في نفس مرتبة وعيي.. تسلحتْ أصابعي بخيوط من الشمس.. أمسيتُ كقمرٍ لا يغادرُ ضياءه هنا أو هناك.. انبعجتْ كرةُ أهلِ المسقطِ الأرضية كي تستوعبني.. حطتْ عقارب ساعتهم على زمني.. بؤرهم اليابسة نشدتْ مائي إلى حد الحسد.. سواحلهمُ المؤرقةُ نظرتْ مراكبي إلى غاية إدمائي.. وعلى مدارج روح مشعة بأضوائها وبقدرةٍ خفيةٍ، كنتُ فارساً اسْتمدوا منه الشجاعة وكيفية ركوبِ الخيل؟.. تسنَّمتُ كقمرٍ مرتبة أهلاً لها.. كنتُ كمايروني في البعد بازغاً رغماً عن حسادهم.. لكن عندما مر أول خسوف لقمري، كانتْ هفوةٌ لا تغتفر.. وهنا قالوا بلسانٍ أخطبوطي أحمر حامٍ:

لا نُحِبُ من يخسفون.

وإن كان الخسْفُ أمراً يشي بالقصور للخَلْقِ؟

وإن.

على عقولكم العفى.

تمتمت لنفسي: (الجذور الأصيلة ترصدُ عقولاً لا تعرف إلا التسكع على أرصفة الأخطاء.. العقارب التي خلف الصخور تترصد بخبث، فتقوم بمهمة تثبيت حتى المهاترات.. بستان قريتنا مليء بالأفاعي.. قريتنا لا تتورع عن حساب انتصاراتها الواهية بعدد أفرادها الذين تقتلهم.. لقد انزوى ونأى منها أكثر من ألفي طفلٍ يحملون فوق جثثهم الدامية الحروف الخائبة.. لن أجدِّف ضد تيار نهرها لأني لن أغير اتجاهه.. سأتخذ منفى بعيداً لي.. أعلم بأن في المنفى تجتمعُ كلُّ التكهنات والفجائع.. بل فيه ألوان كثيرة مجهولة، بيد أن لوناً واحداً أعرفه يسمى: أن في قتلي إليه حياة!..).

وقد تم لهم بُعيدَ عامٍ من تفتيتِ الملامحِ البيضاء تحت السنابك الهمجية.. فهم لايريدون ـ بأهواءٍ تحركها الحجارة، وهياكلَ فارغةٍ تستمرئُ عليها عادات منحرفة، ومزقاً كسولة تتلاعبُ بها تقاليد حمقاء ـ أن يُخْسَفَ القمر أبداً ولو كان بلاءً لهم.. حملوا في جيوبهم المنفلتة تراباً قارعتهُ الريحُ فرمدتْ به عقولهم فهم على وجه الصفاء الأصيل لا يقبضون.. عبثاً وبشكل مجاني يفعلون.. هكذا وعيتُ هذه اللحظةَ إلى مرآتهمِ الساذجةِ، على مقربةٍ منهم..

الآن، لأول مرة أرى السماء ناصعة إلى هذه الدرجة..

هروب؟‍‍‍

لا يا أبي.. استحقار‍‍‍!.

15/4/1425هـ










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق