الأسلوب البسيط بين الجذب وانهيار القص






الأسلوب البسيط بين الجذب وانهيار القص





يلفت نظرك إلى قوة ملاحظته، وقدرته على التقاط الموضوعات المختلفة من كل شيء حوله.. فما تخرج من موضوع جميل رائع سجله في قطر من أقطار قصة قصيرة ما، حتى يفاجئك بموضوع آخر أجمل وأروع احتضنه وآواه بقصة أخرى.. بدءاً من قصته (بثغر باسم) حيث الصبي الذي نالت منه الحياة بقسوة الفقر والعوز حين أراد الحصول على لعبته المفضلة ، وحين نالها محروماً من أبسط حاجات ترميم عظامه بين جدران المدرسة أسوة بزملائه الطلاب، اغتصبها منه صبي آخر، لتعود به المعاناة من جديد.. وانتهاء بقصة (رحلة حب) التي اقتنصت موضوع ذلك الشاب الباحث عن الزوجة التي تروقه فيجدها على حين غرة في الحافلة حين فجأة سقطت عيناه عليها فاختلس لها نظرة ، آسرته ، وراح ينسج الخيالات والآمال والطموحات فيها لتكون زوجة المستقبل، إلا أنه تفاجأ بأنها زوجة للعجوز الذي كان يعتقده أباً لها لكبر سنه وصغر سنها، العجوز الذي راح هو يساعده في الحافلة أبان سفره لعله يظفر بابنته.. إلا أنه خاب ، وأية خيبة كانت؟!



القاص الأحسائي/ أحمد العليو.. الذي بدأ مشواره خلسة، وحياء في ربوع الأحساء، كما هم قصاصها.. يصطاد لنا من بحر الحياة الاجتماعية مواضيعه، فيغمرنا بمآسي شخوصه ، انتهج الأسلوب البسيط جداً في طرح أفكاره القصصية.. الأسلوب الذي يمكن لأي قارئ ذي ثقافة متوسطة يجعله يلتهم قصصه ويفهم مغزاها سريعاً وما يريده منها دون إنهاك أو تعب.. بل دون أن يحاول الزهو والتفخيم في عباراته ولغته، الأمر الذي يجعل من قارئه أيضاً لا يضيق ذراعاً به، فيهجره (استسلمَ عمي الحجي إلى النوم ورقبته تدلت على رأس الكرسي ، والنوم بدأ يغمض جفوني ، فأسندتُ رقبتي رافعاً جسدي قليلا لتعتدل رقبتي ، فسقط بصري عليها وهي ترفع الغطوة قليلا لتنظر إلى أسفل ، لمحتُ جمالا خارقا)..



أعتقد أنه من الكتاب الذين يهمهم جداً إيصال الفكرة للمتلقي الذي ينفعل ويرتب أثراً ، ولم يكن من الكتاب الذين يهمهم أن يكون فخوراً على القارئ بأسلوبه من أجل أن يخاطب فئة معينة من المتلقين ، كالناقد الذي يتعلل ويتذرع به البعض ، ومحاولة الرقي إلى ذوقه ، وكأننا بصدد نقاد حقاً لا يتوانون عن واقتناء القصة القصيرة ويتسابقون إليها واقتناص مكامن التأويل فيها.. نعم يحاول العليو، أن يلامس ذوق الناقد ولكن ليس بالمستوى الذي يتركه في لحظات مطولة في التأويل والتشريح، ليثقل من في الجانب الآخر ، متلقيه (القارئ) البسيط الذي يهدف إليه (اكتشفُ ملامح وسامة دثرها الزمن ، يلقي شيطاني العباءة ، وخيالي يبدأ بمحاولة رسم ملامحها)..

ورغم أن العليو في قصته رحلة حب، الذي حاول أن يجعل القارئ يحس بإصبعه التي يوجهها إلى ملاحظة هذا أو ذاك من المعاني الواردة في الموضوع أو القصة، وقد أشعرنا بأن همه أن يقرأ له بقوة ويفهم مايرمي إليه (ما أجمل الصدفة أحيانا) بل أصابته هفوة التدخل في قصته ببعض العبارات والإسهابات غير المطلوبة (وضعتُ حقيبتي على الكرسي المجاور لي عازما على السفر ولأستريح من أحاديث اختيار الزوجة التي رفضتُ الكثير ممن عرضتْ علي أمي وأختي الكبيرة ، فكثيرا ما يُخنق اختيارهما على حبال أسئلتي عن ملامحها وأوصافها ، وقد أصبحتا تعجزان عن إقناعي ، المشكلة أن قتاعتي لم تكن كبيرة بأن أتزوج على ذائقة الآخرين في مجتمع يجعل الأنثى تسير والغطاء الأسود يغطي جسدها ، تعبتْ أمي وتعبتْ أختي من استخدام الحيل والمراوغات للدخول للبيوت الأجنبية لرؤية فتياتهن ، أظلُ في جدال معهما نهارا ، وليلا استلقي بجسدي على السرير وأعانق تلك الصور المثيرة .) رغم ذلك كله، إلا أنه أتخذ في أسلوبه البسيط ، صفة صاحب الصدر الرحب، والحديث الخفيف إلى الصديق المقرب له والمحبب منه، فجعل من القارئ يحس بأنه الصديق العزيز عليه والمتجاوب مع أسئلته وأفكاره وما يريد توضيحه وطرحه في سرده ، فأعطاه متعاطفاً معه كل مبتغاه ومايدور في فلك فكره، وإن كان ذلك قد أتى على القصة ، وأثقل عليها (أسئلة الناس كثيرة حول زواجي ، يريدون أن أقدم لهم تقريرا لهم عن عدم دخولي للقفص الذهبي كما يزعمون ، وللأسف الأغلب لا يرى إلا بنظارة الجنس !! .



منهم من رماني بأني عاجز جنسيا فيأخذ بوصف عقاقير وأدوية منشطة لي ، وبعضهم يسألني هل لي رفيقات من بناتِ الهوى ؟ ! ، أتذكر أحدهم أخذ يلح عليّ بأن يصحبني لبنات الهوى المزعومات بالرغم زواجه بثلاث نساء ، فأضحكُ من سخفه وهيجانه .) وما كان ينبغي له هذا التعاطف على حساب القصة.. نعم راقني العليو بعدم التعالي على القارئ، إلا أنه فقد خاصية عدم الإيجاز ، فأهدى المتلقي مقدمة ، كي يهيئه ، والقصة القصيرة لا تقبل ذلك، ثم حاول التدخل فيما لا ينبغي التدخل فيه، والتعليق على بعض المفاصل في القصة، ووضح له الكثير كي يكون أكثر راحة ورخاء.. وأعلم بأن القاص العليو يعي تماماً قدر الإيجاز في القصة القصيرة وأنه يدرك بقوة أن هذه الهفوات تخل بالقصة، وقد وجدتُ ذلك ظاهراً في كثير من قصصه حتى خرج بحصيلة كثيرة من القراء المختلفين الذين انسجموا مع القصص وراحوا يؤولونها رغم وضوح وجهها في الظاهر، إلا أن ذلك يعد كبوة لفارس يمكنه ألا يكبو مرة أخرى...



أعتقد أن العليو برع في الإيجاز الذي تقوم عليه القصة بأقل عدد ممكن من الألفاظ.. بمعنى أن تحذف كل كلمة لا تخدم المعنى أو تضفي عليه الجاذبية المطلوبة. في هذه القصة (رحلة حب) ولاسيما في نهايتها المفاجئة المخيبة للآمال بقوله : (سبقته إلى أسفل الباب .



ـ " عمي الحجي أعطني يدك " .

وعيناي تنظران زوجتي في المستقبل . وصوتٌ مخنوقٌ ينصب رمحه في قلبي :

ـ " وجع يوجعك ، أزعجتنا يا عمي الحجي ... يا عمي الحجي ".

دور الأرضُ بي .

تلكزها المرأة الكبيرة وصوت خفيض :

ـ " عيب يا ابتني ، عيب المرأة يطلع صوتها "

وبوجه يغزوه الخجل يعتذر العجوز لي من عبارات زوجته !!! .فيزداد دوران الأشياء من حولي ، وأوراق الأمل تتساقطُ من حولي)



ومن هنا أشد على يد القاص العليو، بهذا الأسلوب السردي الذي يعبر عن اهتمامه بإيصال أفكاره الخصبة المشحونة بقوة خياله وروعة تصويره للأشياء والمواقف التي يلتفت إليها وتشده فيقدمها على طبق من ذهب إلى قارئه.. وآمل أن يلقى هذا الأسلوب اهتمامه بالدرجة الأولى فيرتقي به ليكون ضمن السهل الممتنع، بل ويكون مميزاً به، خاصاً له، لتخرج قصصه إلى النور بكثافة، فيحصل على أكبر قدر من القراء الذين ينفعلون ويرتبون أثراً بعد القراءة.. وأعتقد أن العليو باجتهاده الذي بدا واضحاً في انجازه لمجموعته القصصية (الجسر) في فترة وجيزة قادر على أن يلهبنا بهذا الأمل.

كما يجدر بي إلى حث القارئ الكريم، إلى قراءة مجموعته ، لإيماني بأنا ستجتذبه وتأسره، وسيخرج بحصيلة طيبة.

وفقه الله وأعانه في مسيرته القصصية .




هناك تعليق واحد: