قارعة حلـــم



قارعة حلـــم


بتاريخ (2/1/1424هـ)..
شفاهه تقتحم جفافها ابتسامة باهتة.. وذاكرته المثخنة، استرجعتْ المشهد: الآيات تغبط جمالها.. كانت قبالته، تعرض نفسها بفن وإتقان، بغنج ودلال، تردد مقطوعات غنائية وتتراقص عليها.. بالقرب منه، تنفث أنفاساً برائحة النعناع، ومن وجنتيها الناعمتين تشع في عينيه خيوط ضوء تعشيه.. بين دفء ذراعيه، ارتمتْ جذلى يغرد هيامها ككناري الربيع.. ذبلتْ كوردة جميلة ناعسة.. كشمعة ساحت على صدره بحرارة جسده الوثير.. بهمس وجدانه في أذنها سكنت كعصفورة هانئة في عشها.. نعستْ.. غفتْ.. والفرحة الشفيفة، تَكتِبُ وتُسطِرُ ذاتها فوق شفتيها.. وحين أبهجه الفعل الذي لم يألفه.. الذي أغراه تماماً.. تمتم لذاته: إنها المرأة الحلم!!.
أنعتق من ذاكرته.. كَأَّبَ جوَّهُ بتنهيدته ممتداً على أريكة بطوله يكتنفها بيته.. أسدل جفنيه يَنْشُدُ أنفاسه على وجيب قلبه.. حينذاك، طرقتْ مسمعه نَغْمَةَ بُشرى لمجيء رسالة في جواله.. فتحها، فإذا بالرسالة آتية منها.. تمتم: سبحان الله!.
نَزْفُ شعوره، هو من كتب نص الرسالة وأرسله لها، ولا شك شعورها، بدوره قد أعاده إليه كردْ.. يقول النص: (لا أتخيل الفكاك منك.. لكن كم يزيد خوفي المستقبل.. ليتني ما عرفتك!).
الآن، فهم بأنها تعاني كما يعاني.. في الخفاء تشبهه، كما كان ضجرهما ـ قبل دخولهما إلى حياة بعض ـ يقذف بهما إلى جحيم التدهور النفسي الدائم، حيث الشعور بالنقص والظلم من الزمن.. يشعران بأن طفليهما الكامنين في أعماقهما مدميان.. نسخهما الدهر من نقاوتهما وعفويتهما.. فأمسيا يحتاجان إلى صدرين حنونين يرتاحان يسكنان إليهما من أمواج الحمق، وإلى حضنين دافئين يختبئان فيهما من نيران القبح.. ولذا كانت حيرتهما كثلجٍ لا يهوي إلا إلى الأودية السحيقة.. فلجآ إلى بعضهما برضىً، وإن كان لجوؤهما غدا خارج الزمن والطقس والتأريخ والمبدأ، كما يعترفان.. فتردد على لسانيهما ـ في رجائهما لبعضهما ـ أن يقول كل منهما للآخر: اسكب مذاق سحرك في نفسي حتى يتجذر بين أضلعي، فيتحول السحر إلى جنون يدفعني إلى أن أطلب منك كل شيء.. كل شيء.. فأعطيك بلا حدود!!..
هكذا أشرأب عنق حنينهما من عناقيد الظلام.. منذ أن بدأ ميلاد الحكاية العادية جداً لتعارفهما.. الحكاية الجريئة، المندفعة، المحملة بوله الوردِ للندى، والأرض للمطر، والعبدِ لما يعبدْ!.. بدأت الخطوة الأولى، بتعارفهما عبر حوارات جاذبة في منتدى إلكتروني عام، فتحولت عبر تقنياته المتنوعة إلى رسائل خاصة دافئة.. فمكالمات هاتفية حميمة.. فلقاءات حرة شبقة..
كالماء انسابا على شكله بنحو جنوني.. متعاطفين تماماً، ليني الجناح وبعضهما جداً جداً.. يحاول كلٌ منهما أن يحوي ويرضي ويغرق الآخر بكل اهتمامه ودفء مشاعره، حيث كلٌ منهما ـ إضافة إلى أنه وجد رفيقه يكمله ـ وجد ضالته فيه، ويؤكد له صدقاً بذلك.. فيتأسفا على كل لحظة ضَيَّعتْ اقترابهما، بل رددا اللعن على قدر لم يجمع بينهما منذ أمد طويل..
وقف ينفث دخان صدره تأوها.. ينثر نظراته في كل اتجاهات شقته الخافتة مصابيحها خفوت البياض في مستقبله.. وفي جمجمته تعيث استفهامات حيرى: إلى أين أتجه؟.. إلى أين أذهب؟.. بل ماذا أريد أن أفعل؟.. وما جدوى ما سأذهب إليه وما سأقوم به؟.. فعاد يحرق بجسده أريكته خائباً، استندها يائساً، يغلق جفنيه على احمرار عينيه.. استرجع موقفاً آخر..
كانت مستقرة في حضنه تتلقط دفأه.. ذراعاه تحتويان جسدها الرشيق الغاوي.. يرقد رأسها فوق صدره.. تتناغم أنفاسها ووجيب قلبه.. يخلخل شعرها الناعم.. يقبل جبينها تارة، ومابين أذنها تارة أخرى.. وذراعيها تكمش كل جسده بقوه.. تقول له بهدوء: حبيبي.. أنت فقط من فهمني.. أنت فقط من أشعرني بقيمتي في الحياة.. أنت فقط من أشعرني بقيمة وبذوق ما أقدمه وما أفعله.. أنت فقط من وهبني الكثير من وقته واهتمامه.. أنت من سأطلب الحياة من أجله.. أنت.. وأنت.. وأنت.. فخذ مني كل ماتريد.. بلاحدود.. بلا حواجز.. لكن لاتفكر في الرحيل عني.. دعني أتنفسك كل لحظة.. فإن أسوأ الحياة والمشاعر، أن يصبح مصيرك في يد من لا يعرف قدرك..
صمتت قليلاً، فأردفت بتأوه شديد: حبيبي، يخطئ الرجل إذا تجاهل مشاعر المرأة، أو بخل بفنون الحب عليها خصوصاً إذا كانت بحاجة للاحتواء، لأنها ربما تبحث عن الحب في مكان آخر، فهل تلام على ارتكاب هذه الخطيئة؟.. أليست عجيبة هذه الحياة؟‍.
لم يجب عن السؤال، غير أنه همس في أذنها: لن أرحل أبداً.. فالهم واحد، والمعاناة واحدة، وكلانا أعطى الآخر مايريد تماماً.. تماثلنا في كل شيء، وعسى أن نكون في العمق سواء!..
انفك من أسر ذاكرته.. طفحت ابتسامة ساخرة على شفتيه المتشققتين.. تمتم بتأوه:
حقاً بودي أن يكون كلّي لك.. فأنتِ تاج مضيء قيّم وضع على قيمة عمري، ولا سبيل إلى أن أجد مثله، وأنت تماماً تفصحين بهذا.. لكن بماذا أستأمن على هذا التاج الجميل، ليتابع إرسال خيوطه الذهبية إليّ بهدوء؟.. ليجلي انتكاساتي بسلام؟.. ليحيق الندم من حياتينا؟.. فكلانا يعرف بأن أحلامنا في هذا المشوار أحلامٌ غبية.. بل يعرف كلانا بأن النهاية ستهوي بنا في الواقع الزاهق.. من طرفين متجاذبين بحماقة.. من رجاء عاشقين بجنون ساذج؟.. قيل: (العشق، هو أن تهمس في أذني عاشقك بالاصطفاء.. ثم تصرخ في وجه العالم كله، أنك لا تحتاج غيره.. وتُخَولُ لك بذلك كل الشرائع والقوانين..) وهانحن همسنا لبعضنا بذلك، فهل باستطاعتنا الصراخ به في وجه العالم كله؟، بل كيف يمكن أن يسلِّم أحدنا بهذا القول، في وقت رسم القدر طريقه لنا قبل تعارفنا؟.. لابد وأن تسلمي بأن كلينا على بوابة حلم خرافي.. حيث مهما حاولنا أن نعمل، فلابد من ساعة الرحيل.. تلك التي لا أتوقع أن تفاجئنا أبداً.. نتناساها، كما نتناسى الموت..
احتضنتْ كفاه وجهه المتقلبة ألوانه.. فعرّقهما ببخار أحشائه.. تذكر مفكرته التي تحتويها خزانته الخاصة.. استخرجها لزيادة ترطيب ذاكرته بمعلومات كتبها عنها.. قرأ بقلب منقبض:
الاسم الحقيقي: سميره..
(لم تبح بكامل اسمها له، لأنهما اتفقا على أنه ليس مهماً، بقدر ما يهم أن يكونا بالقرب من بعضهما ويعطي كل منها الآخر بلا حدود!)
اسمها المستعار في الانترنيت (الجريحة).
العمر 37 سنة.. يتيمة الأبوين.. مدرسة.. متزوجة منذ اثني عشر سنة، ولديها طفلان..
زوجها مشغول جداً.. غير موجود في البيت أغلب الأوقات.. لا يطيل ولا ينسجم معها في حديث..
ثم قرأ مثالاً قد كتبه في ذات الورقة: ( الطيور على أشكالها تقع)، ومرسوم بجانبها، قلبين أحمرين، بجانب بعضهما، جريحين.. بل قرأ ملاحظة أخرى قد كتبها في ذات الورقة، بتاريخ (5/8/1423هـ) وقد رسم بجانبها قلبين يحترقان، تقول: ( ثلاثة لقاءات، أسفرت عن طفل جديد حبلت به مني، في وقت هي كانت تمانع عن الإنجاب من زوجها!).
ازداد انقباض قلبه.. شعر باهتزاز شرس في جسده.. فكسًّر الورقة بين أنامله المرتعشة.. رماها بعيداً، وهو يتوجه صوب القبلة يصدر زئيراً بقوة الأسد.. ثم سجد على الأرض باكياً كطفل مرهوب!!..

12/10/1426هـ





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق